قصتي معها
بقلم: عبد الله يوسف
أكبُرُها بست سنين..
حين وُلِدتْ كنتُ في السادسة من عمري، رُزقتُ حبها صغيراً؛ إذ كان بيتنا من البيوت الأولى التي احتضنتها، وكان مسجدنا ثاني مسجدٍ وُضِع في مخيمنا، ومنه خرجت المسيرة الأولى التي رفعت شعار "القدس لنا .. لا للظلمة، والويلُ لهم في الملتحمة".
في هذه المسيرة كان عماد عقل، وكان العشرات مّمن هم الآن في عِداد الشهداء، ومنهم ما زال على الدرب في داخل قطاع غزة وخارجه، كانوا فيها .. وما علموا أن هذه المسيرة ستغيّر وجه التاريخ، وتفتح صفحة جديدة في كتاب الصراع، وستصنع جيلاً يزيل أوهام الكيان من عقله!
مسيرة كان عدِادها بضع عشرات من الشباب الذي ما زال على عتبة الالتزام الديني، ثم ما لبث أن أصبح آلافاً مؤلفة، يحمل الكتاب والسلاح ويمضي به قُدماً ثابتاً في أرض النار نحو العودة والتحرير .. وأُستاذية العالم!
آلافًا حملت الحجر، وجعلت منه صاروخاً يجوب فلسطين من بحرها إلى نهرها، وعبوات تُتبّر ما علا العدو تتبيرا، وطائرات تُحلّق فوق روابينا كعينيّ صقر ترصد وتهاجم، وقاذفات ترجم العدو فتُحيله رمادا..!
فكان "البيت" وكان "المسجد" بينهما أمتارٌ معدودة، وكلاهما ينبض بحبها، ويهتف باسمها، ومنهما خرج الدعاة، والأبطال، والمجاهدون الملثمون، ومنهما رضعتُ حبها، ورشفت رحيق عشقها!.
المسجد للعبادة وتربية الشباب، وصقل الأرواح، وتثقيف الفكر، وصناعة جيل يمشي الهوينا نحو هدفه، وكانت حلقات القرآن تعمُّ جوانبه، وتملأ أروقته، ومكتبته عامرة بأفضل ما أنتجته المكتبة الإسلامية حينها، ومُزيّنة بصورة ملونة للإمام البنّا كان قد أحضرها أحدهم من قاهرة المُعز!
كان المسجد الأخضر -كما كان يحلو للعدو تسميته-، وكان محرابه الجميل الذي لا يشبهه محراب، وكان الشيخ يوسف عليّان صاحب العمامة الأزهرية الحمراء، الذي كان لا يعتلي المنبر سواه، يصدح ويربّي الجيل، وينشر فقهٍ موروث من الأزهر الشريف، فقد كان – رحمه الله- نِعم السفير لرسالة الإسلام، والناشر لسُنّة النبي العدنان.
وكان البيت حِصن الشباب، والملجأ الآمن، وفيه تُقام السهرات الإيمانية، وفيه كان يلتقي المطاردون، ويحتمي من هو مطرودٌ من بيت أبيه، أو ملاحق من العدو، أو من تعرّف على الدرب حديثاً.
وكان البيت، وكانت "أمي" راعية شباب المسجد، تطبخ لهم، وتُعدّ لهم الطعام بأواني الأعراس الكبيرة، وتستقبلهم بالعشرات في اللقاءات الجامعة، وما زلت أتذكر وجبات الفول التي كانت تُعدّ منها عشرات الصحون للإفطارات الجماعية.
كان مسجدنا "الحق" يعجُ بالشباب من شرق المخيم وغربه، إذ هو المسجد الوحيد الذي احتضن الدعوة في هذا المخيم في ثمانينات القرن الماضي، فكان مثابة الانطلاق وأوبة العمل، ومنه تخرج المسيرات، وفي مكتبته تُصاغ البيانات، وفي حاكورته تُدفن ملابس الملثّمين، وبين أروقته حفّت الملائكة مجالس القرآن ودروس الفقه والوعي!
وقد مثّلَ هذا المسجد طيلة فترة الاحتلال غُصّةً في حلقه، فقد عاصر البدايات الأولى.. فكان منه الحجر الأول، والشهيد الأول، والتحريض الأول، وكان منه الشهداء والقادة والمؤسسون، منهم من لقي الله شهيداً كعماد عقلٍ وغيره، ومنهم من كان في مجموعة الشهداء – أول مجموعة عسكرية لكتائب القسام في غزة -، ومنهم قادة كثر ما زالوا يواصلون الدرب في مصافّ متقدمة في هذه الدعوة المباركة.
وعلى أعمدة المسجد الخضراء كُتبت الشعارات بخط الشهيد محمد حمدان، وغيره ممّن سبقوه على درب الشهادة، كُتبت: "الضربة التي لا تقتلني تقويني"، وكُتبت عبارة الحسن البصري "إخواننا أحبُّ إلينا من أهلينا، لأن إخواننا يُذكروننا بالآخرة، وأهلونا يذكروننا بالدنيا"، وشعار شيخنا الراشد: "من جانب المحراب يبدأ سيرنا" .. وعلى رؤوس الأعمدة طُبع الشعار الخالد: الله غايتنا، القرآن دستورنا، الرسول قدوتنا، الجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا.
وبين المسجد والبيت كانت حماس، وكانت البطولةُ والفداء، والإخلاصُ والجهاد، والتجردُ والثبات، والأُخوّةُ والطاعة، وكانت رسائل البنا وكتابات سعيد حوى، والراشد، وآل قطب، وفتحي يكن تُدوّي في جنبات المسجد وبيوت الإخوان تظلّلها المأثورات ودعاء الرابطة.
ومن المساجد كانت الانطلاقة، ومنها كانت "انتفاضة المساجد".
ومن المساجد والبيوت كانت حماس، وبينهما قصةُ ثورة أرادت أن تخلع الطغيان وتزرع الإيمان.
كانت حماس، وكنّا نِعم الجند لها، نرفع رايتها، ونهتف باسمها، ونتغنى بأغانيها، ونحفظ أناشيدها: اليوم يوم الغضب، 08/12 أشعلناها بايدينا، بدنا نعمل مع حماس 24 ساعة، وقائمة طويلة من أناشيد فرقة اليرموك الأردنية، والروابي الكويتية، والشامي أبو راتب.
ونحفظ أسماء قادتها الشهداء: عز الدين القسام، عبد الله عزام، غسان أبو ندى، بسّام الكرد، محمد أبو نقيرة، ... وقائمة طويلة ممّن رسموا لحماس الطريق، وعبّدوا الجسور لمن بعدهم بدمائهم ..
فكانت حماس بالمساجد، والشباب، والدماء، وبيوت المخيمات، وأزّقة الحواري، .. وستبقى حماس الرائد الذي لا يكذب أهله، تحمل الدعوة للناس، وتغيث الملهوف، وتنصر المظلوم، وتوحّد الكلمة، وترصّ الصف، وتُعلي راية الجهاد، وتربي الأجيال على موائد القرآن ..
فلك يا حماس، في يوم ميلادك: ألف تحية وسلام .. !
تعليقات الفيسبوك