الوعي السياسي

العام القادم في فلسطين

عبد الله يوسف*

 

"عائدون .. عائدون .. إنّنا لعائدون"، شعارٌ طالما هتف به الشيخ الشهيد نزار ريان في الساحات والمهرجانات وخطب المساجد، مذكراً الناس أن لهم بلاداً مُحتلة، وأراضٍ منهوبة، وبيوت هُجّر منها أصحابها، ويزرع الأمل في نفوسهم أن العودة باتت أقرب، وأن الحُلم قاب قوسين أو أدنى، وأن: العام القادم في فلسطين!

شعار رفعه أهل الجهاد ليبقى الناس على العهد، فيتذكر الكبار، ويتعلم الصغار، وترتبط القلوب بفلسطين، وبمدنها وقراها وبمسجدها الأقصى، وأنه لا يضيع حق خلفه مُطاِلب، ولا تضيع أرض ارتوت بدماء وعرق من زرعها بزنده.

شعار تعلّق به الناس، وتحيّة تعوّدَ عليها اللاجئين تسليةً لهم، وبشرى لأبنائهم أن العودة ليست حلماً، بل هي واقعة لا محالة، وأن المستقبل لهذه الأرض وسكانها الأُوَل.

كأن هذا الشعار العسقلانيّ هو امتداد للشعار الخالد "إنه لجهاد نصرٌ أو استشهاد" الذي أطلقه خطيب مسجد الاستقلال الشيخ الشاميّ عز الدين القسام في ثورته الباسلة عام 1935م، حين قاوم الإنجليز واليهود معاً، بعد أن ربّى جيلاً باع مصاغ زوجه لشراء السلاح لطرد الإنجليز واليهود معاً من هذه الأرض!

وبعد استشهاد القسام اشتعلت الأرض من تحت أقدام اليهود والإنجليز، وانطلقت من جديد ثورة القسّاميّين لِتُآخي ثورة البراق، وتعانق ملحمة إعدام أبطالها في سجن عكا، وصولًا للإضراب الكبير عام الـ36، ومعارك الحاج عبد القادر الحسيني الذي استوت على سوقها يوم استشهاده في معركة القسطل دفاعاً عن قسطل القدس في الـ 48 ..

وقاتلَ الناس، ودفعوا أثماناً باهظة من أرواحهم ودمائهم وأموالهم في سبيل عدم تمكين اليهود من أرضنا فلسطين، ثم يأتي من العُربان من يقول لك: أن الشعب الفلسطيني باع أرضه لليهود، في أكذوبةٍ ما زال بعض مثقفّيهم يبثها في مناهج ووسائل إعلام عربية! كأنهم يروجون ويبررون للعدو جرائمه بنا.

فحين هاجر أهلنا من بلادنا فلسطين تحت صدمة المذابح والقصف المُركّز، والقتل بالعشرات، والدفن في المقابر الجماعية، وبقر بطون الأمهات، وما صاحب ذلك من هول وخوف، وشعور بالوحدة والخذلان من العرب الذين ما فزعوا ولا انتصروا لإخوانهم المكلومين! نصبوا الخيام في أماكن أُعِدّت للاجئين أطلقوا عليها لاحقاً (مخيمات اللاجئين).

هذه المخيمات كانت عبارة عن مجموعة (خيام) لكل عائلة خيمة، هي كل ما يملكون، ولكل مخيمٍ حمامٌ واحد، وماسورة مياه واحدة!، وكان بعضهم إذا أراد أن يقضي حاجته فعليه أن يقف في طابورٍ طويل ريثما يصل دوره بعد طول انتظار!.

         أتدرون لماذا كان لكل مخيم حمام واحد؟ لأن أهلنا كانوا يعتقدون اعتقاداً جازماً أن الأمر طارئ، وأن العودة للبلاد مسألة أيّام فقط!، وأنّه لا داعي لبناء حمّامات عديدة، فالمقاتلين ومن خلفهم العرب سيُلقنون (إسرائيل) دروساً تُنسيهم أنفسهم، وتعيد لهم أرضهم التي أُخرجوا منها.

         طال الأمر، وطالت الهجرة، وطال البُعد عن الديار، وعن بيارات البرتقال، وبيادرنا الجميلة، والسفوح الخضراء، وما حضر العرب، وما دافع عن فلسطين ذوي القربى والنسب!.

وحين دبّ اليأسُ في قلوب الناس، وعلموا أن العودة للبلاد أصبحت من المستحيل بمكان، وبعد أن كانوا يرفضون فكرة أن يبني أحدهم جداراً بالحجر والإسمنت؛ لأن العودة قريبة، وما نحن هنا إلا ضيوفاً عند أهل غزة أو جباليا! .. تجرّأ بعضهم وبنى بيتاً بالحجر والإسمنت وسقف الأسبست، فهاجت الناس وماجت، واستنكرت وأزبدت وأرعدت؛ إذ كان هذا الأمر مستهجناً، ونذير شؤم، وإقرار بواقع لا نرضاه ولا نقبل به.

         إذ كيف نبني بيوتاً تدل على الاستقرار، والرضا بالحال، والاستسلام لواقعٍ أسود، فيفهم عدونا منها أننا يأسنا، وأنه لا طاقة لنا بقتاله، وأن الحُلم قد وئد في مهده، وأنه لا سبيل للعودة والتحرير، ولا شوق لسقي بيارات البرتقال والليمون!

         فما ذاق العالم أطيب من برتقالنا اليافّي، ولا أشهى من حبّات (الجمّيز) الجبالي، ولا ألذّ من ليموننا المعصور بالنعناع، ولا أمتع من كعك القدس المغموس بالشاي البدويّ، ولا أحلى من نابلسية نابلس، وعنب الخليل!

         وكان الناسُ يطوون العام تلو العام، والمجزرة بعد الأخرى، والانتفاضة فالهبّة ثم الحرب والجولة، وما زالت تحيتهم: العام القادم في فلسطين، وما سئمنا من دعواتنا بأن يكون شهر رمضان القادم، وأعيادنا المقبلة في فلسطين.

وما وقفت مقاومة الشعب الفلسطيني من ذاك اليوم إلى هذا التاريخ الذي حمل فيه أحفاد القسام الراية والسلاح، والبيت الذي باعه القسام ليشتري به سلاحاً للقسّامييّن نما اليوم ليصبح صاروخاً، وطائرة، ومضادات دروع، وعبوات، وأحزمة ناسفة، وقنابل، وذبذبات هوائية تخترق حصونهم التقنية.

         "تفاءلوا بالخير تجدوه" و "إن الله يحب الفأل الحسن"، لذا نرى أنه من الواجب الشرعي أن نبُثّ الأمل في نفوس الناس، وأن نمدّ لهم جسور الثقة بالله، ثم بالمجاهدين أن وعد الآخرة قريب، وأن شمس العودة أذنت بالشروق، وأن "بشريات بسام جرار القرآنية" تلوح في الأفق بإذن الله، وأن: العام القادم في فلسطين.

         ما خاب عزمنا، وما شاب مضاؤنا، وما غُمدت سيوفنا، وما يئسنا ولن نيأس، وما نسينا ولن ننسى، وسنبقى نُحيّي أنفسنا وأهلنا، ونُلقّن الأجيال أن: العام القادم في فلسطين.

        

رئيس مؤسسة عبير الوعي – قطاع غزة

 

الجمعة 31/12/2021م

 

تعليقات الفيسبوك

كن معنا في نشر الوعي

"وتتعمّد منهجيتنا التربوية تربية صفوة كبيرة الحجم من الدعاة تتكون منها قاعدة صلبة للعمل الدعوي وتحمل أثقاله، وتصبر على طول الطريق، وتتكون منها الطبقة القيادية، ثم نحاول صناعة طبقة واسعة من الموالين للدعوة". 11

كن معنا