الوعي الدعوي

قصتي مع الراشد

د. علي بن حمزة العمري

 

هذا الرجل وددت أن ألقاه بأي ثمن!

فهو بعيد، وبعيد جداً عن الناس، ولكنه قريب من قلوبهم، حاضر في فكرهم.

قرأت كتبه كلها، ولم أكن أدري أنني في يوم من الأيام سأصير الناشر لكتبه!.

بعد محاولاتٍ عديدة عرفت أنه في سويسرا، بل على حدود فرنسا في منطقة نائية جداً، يعيش وزوجه الفلبينية لوحدهما، ولديه صديق وتلميذ مقرّب يقوم على شؤونه.

رتبت مع أحد الدعاة الذين تواصلوا معه عبر أحد الأصدقاء في المغرب، لأن في سويسرا دعاة من المغرب العربي كثير، فأخبره هذا الداعية برغبتي زيارته، فرحب ورتب الموعد يوم الجمعة في صلاة الجمعة بالمركز الإسلامي بجنيف.

وصلت إلى المسجد قبيل الصلاة بساعتين، وطُلب مني إلقاء خطبة الجمعة فيها، فأخبرتهم أن هذا الطلب يحتاج إلى ترتيب، وأنا أستحضر في ذاتي أنني أتيتُ لأستفيد قبل أن أفيد.

بعد صلاة الجمعة سألت عن صاحبنا فكان على كرسي وسط المسجد ينتظر، فلما اقتربت رحب بي، وظنني شاب خليجي زائر، ثم عرف أنني أنا من أتى لاستقبالي من مدينته التي تبعد عن جنيف ست ساعات بالقطار السريع.

شاب يبدو أنه صغير، والسماع عنه – غفر الله لي – كبير، وتدارك الشيخ الأمر بالسؤال عن الدعاة والدعوة، فكانت إجاباتي مترادفة ومتعمقة، حتى أخبرته بسؤال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله – عنه، وسماعه لكتبه الثلاث (المنطلق، العوائق، الرقائق) وسروره البالغ بها، ثم أكد لي أن الشيخ بن باز بعث له يطلبه في زيارة للحج، لكن الأقدار الربانية لم تتيسر.

نعم، إنه الشيخ والداعية الإسلامي الكبير: محمد أحمد الراشد، أو: عبد المنعم صالح العلي العزي (الاسم الحقيقي).

فرح بهذه الجلسة الأولية، ثم دعاني للغداء في أحد المطاعم العربية، وكان لقاءً جميلاً، قصّ فيه من أخبار الشباب ما يمتع، ثم صارحني بعد الغداء أنه استأذن زوجته وقد تركها لوحدها، ليبات معي في جنيف ثلاث ليال، وهي إكرام الضيف. فلما رأى أنني خفيف وسهل، قال: بل نذهب إلى بيتي وتسكن معي، فحملت حقيبتي وماء زمزم الذي أتيت به كهدية للشيخ.

 في الطريق فوجئ الشيخ بفتحي لدفتر عشرين صفحة، فيه أسئلة عن تجاربه وخبراته، ومواقفه العلمية، والسياسية، والتربوية، والاجتماعية!

فبدأ الإجابة في القطار، وأنا أسجل في دفتر آخر، وكان كلما لمخ منظراً جميلاً، أو منطقة ذات بهجة قطع كلامه، وطلب مني النظر إليها والاستمتاع بها، مع تعليق موجز عن المنطقة وطبائع أهلها!

واستمر هذا الحال إلى أن وصلنا إلى بيته الذي يذكرني بالأفلام الغربية الكرتونية القديمة.

دخلنا البيت وصلينا المغرب والعشاء، ثم أحضر لي طعاماً بيتياً، وأراني بعض لوحاته الفنية، وكتاباته ومشروعاته القادمة, واستمر الحال بين نقاش وسرد لذكريات في غرفة مكتبته، ولم يكن بيته سوى غرفتين أحدهما للنوم، والأخرى للمكتبة، وصالة صغيرة.

عندما حان موعد النوم أرشدني إلى مكان (الحمام)، وموقع الحذاء الذي على الجدار، والعطور، وأدوات التنظيف!

ولم لا يفعل ذلك وكان وقتها في الرابعة والستين، وهو أستاذ الذوق والفن وجمالية الحياة؟

 

قبيل الفجر أيقظني، ولم أكن قد استغرقت في النوم، لذهول الموقف، فصلّى بي الفجر بصوت رخيم، على نغم عراقي، وأداء روحاني خاشع. ثم قال لي بعد الصلاة: يا أخي، لقد قست قلوبنا في هذه الديار، لأننا ما عدنا نسمع الأذان.

 

بعد صلاة الفجر، رجا مني أن أرتاح ويرتاح هو قليلاً لأول الصباح، للإفطار، وإكمال البرنامج.

في الثامنة أو التاسعة صباحاً أفطرنا، ثم أكملنا حوارنا لحين الظهر، فتغدينا سمكاً زهري اللون، شرح لي الشيخ فائدته، ومكان وجوده!

ثم فوجئ الشيخ بطلبي العودة إلى بلدي ..!

استغرب الشيخ من هذا الطلب الملح، وقال: إن إكرام الضيف ثلاثة أيام، فقلت له: لقد أشبعتني في يوم واحد.

ثم سألني: هل زرت جنيف من قبل فهي من أجمل بلاد الدنيا؟ فقلت للشيخ: لا، هذه أول مرة، ويكفيني ما رأيت. وقد أتيت لهدف اللقاء بك، والسلام عليك، وإبلاغك تحايا المحبين، والاستفادة منك، والإجابة عن جميع أسئلتي، وقد حدث كل ذلك بفضل الله وفي وقت وجيز، هو أربع وعشرون ساعة!.

لم يشأ الشيخ أن يثنيني عن طلبي، وذهب معي عبر الباص إلى المطار القريب من مدينته، ووجدت الرحلة المناسبة، لما ضاق مالي لشراء التذكرة لعدم وجود العملة، سألت عن جهاز الصراف الآلي، فرفض الشيخ، وبادر بأمر عرفته بعدئذ، أنه نادى شخصاً للاستدانة منه لشراء كامل التذكرة، وفاجأني بذلك، وعبّر الشيخ عن ذلك بـأنها من باب الضيافة التي لم تكتمل.

غادرت تلك الديار محملاً بحمولة إيمانية ودعوية وفكرية عظيمة، بل ومجالسة تضفي في النفس أسراراً عِذاباً.

نعم لست من نوع المريدين والمقدسين، ولكنني -غفر الله لي- من المتواضعين أمام أرباب المقامات العالية.

بعد أقل من عام اشتقت للشيخ واشتاق لي، ورتبت الزيارة له بحب كبير، وعند وصولي للمطار، تم إيقافي ومنعي واحتجازي على ذمة التحقيق خمسة أيام، وبعد فحص الحقيبة وجدوا كتباُ ثقافية عامة، وشريطاً للقرآن.

فاعتذروا مني، وتذرعوا بالخطأ الذي اشتهرت به كل سلطات الدنيا، وما كانت سوى أخبار الكذب، ومعلومات الملفقين!.

وما كان الشيخ يدري بحالي وإيقافي، حتى توالت اتصالاته هنا وهناك، فعرف الخبر، وأدرك أنني صاحب رسالة.

بعد أول لقاء به وسماعه خبري، حكى لي قصة عجيبة له في دولة خليجية كان يعمل في إداراتها الحكومية عندما سُجن فيها، ووضع في غرفة تفتقد أبسط ألوان المعيشة الإنسانية، وأعطوه حصيراً نتناً، ووسادة بها رائحة الجيفة!

وعند خروجه من هذا النكد وغرفة اللاإنسانية، سأل الشيخُ المحقق: أنتم تعرفون أنني ممن يدعو إلى الوسطية والاعتدال، وأكتب للشباب أن يهتموا بالحضارة والفن، وأسترسل بذكر الآداب والذوق الرفيع، أفيعقل أن يكون من يتكلم عن هذه الدقائق الذوقية والراقية داعية يدعو لغير السلام؟

فقال له المحقق: نعلم ذلك جيداً، ولهذا سجنّأك!

لقد وُجدت نغمة بوليسية آنذاك تستوعب أن إرشاد الشباب لفهم الحياة، بل صناعة الحياة، وتهذيب النفس ورقيها، سيعمق فيهم العمل للإسلام، والدعوة إليه، والحرص على نشره أمراً، والدعوة نهياً عن المنكرات، وما يخدش الذوق والأدب، فضلاً عن ترويج مالا يرضى في ساحات الحياة.

وامتدت الأيام فصار بيننا العيش الطيب الكريم، والاهتمام الأبوي الحاني، وأكرمني الكريم بنشر كتبه الجديدة كلها، والعناية بهان ومراعاة صحته، والحرص عليه.

وزدنا على ذلك في لقاءات المؤانسة الأكل من طعامه في داره من أكلة (الدولما) العراقية الشهيرة، والأكل في داري من السمك الذي ينحني ظهره لأجله.

وقد حصل أن داعبنا مرة، كان على طاولة الطعام ببيتي الدكتور طارق السويدان، الذي قال له: يا شيخ محمد، لماذا لا تمتنع عن بعض اللحوم إن كان ستؤثر عليك وعلى صحتك؟

فقال له الأستاذ الراشد: أفعل هذا يا أخي، ولكن مثل هذه الولائم عند أهل القبائل لا تعترف بامتناعي، ويعدونها عدم رضا بطعامهم، فماذا نفعل؟!

وفي ذات الجلسة تحدث د. طارق عن مهارات القائد، وأن صفة الكرم ليست واجبة كما يقرر علم الإدارة الحديث، فقرر الأستاذ الراشد غير هذا من خلال وقائع التاريخ، وأحوال العرب التي جيب أسانيدها ودلائلها.

ثم خرج الأستاذ الراشد يبشر بوعي متكامل في سيرة الدعوة، وجعل من أربابه أبا محمد، الدكتور طارق السويدان.

تعليقات الفيسبوك

كن معنا في نشر الوعي

"وتتعمّد منهجيتنا التربوية تربية صفوة كبيرة الحجم من الدعاة تتكون منها قاعدة صلبة للعمل الدعوي وتحمل أثقاله، وتصبر على طول الطريق، وتتكون منها الطبقة القيادية، ثم نحاول صناعة طبقة واسعة من الموالين للدعوة". 11

كن معنا