كلمة وفاء بحقِّ شيخنا الدكتور يونس الأسطل
وهذه الكلمة لها مناسبةٌ سآتي عليها إن شاء الله.
وأفتتح الكلامَ بأنَّ الشيخَ وفقه الله قد فُتِحَ له في التفسير والفقه وأصوله والنحو، ودرست عليه في الجامعة الإسلامية مرحلة البكالريوس أكثر مواد أصول الفقه والقواعد الفقهية، وحضرت دروسه في التفسير في مجلسٍ علمي، ودروس النحو في مجلسٍ خاص.
وامتدت العلاقة العلمية بعد ذلك، فلم أكتب كتابًا أو رسالةً علميةً إلا وقرأه الشيخ قراءةً كاملةً دقيقة، يراجع ويُصَوِّب ويُعلِّق، والطالب الذي يقرأ له الشيخ ينتفع بقراءته لتنوع المعالجة والإثراء؛ نظرًا لإلمام الشيخ لعدة علوم، فضلًا عن ضبطه لمنهج الكتابة وقواعد البحث العلمي.
ومن تعامل مع الشيخ في هذا شعر أنَّه ينتمي للباحث وبحثه، حتى لكأنَّه مشرفه الذي يتابعه، بل من عادة الشيخ أن يقرأ المادة مرتين؛ زيادةً في التدقيق والتحقيق، رغم سيول الأعباء التي تشغل وقته، ويقول: المرة الأولى لآخذ انطباعًا عامًّا وأفهم مراد الباحث، والقراءة الثانية للتحقيق والتدقيق والتعليق.
وإذا وصلتك المادة من فضيلته وجدت ورقةً مردفةً بها تتضمن تعقيبًا على المادة العلمية، وتجمع الحسنات والزلات، والبند الذي يتكرر دومًا مفاده: هذه الملاحظات بين يديك، خذ بأحسنها، وإلا فيمكن أن تَئِدَهَا أو تَدُسَّهَا في سلة المهملات أو في الفرَّامة حتى تمزقها كل ممزق، فإن أخذت أو تركت ستجدني في الحالين من الشاكرين.
أما المناسبة التي دعتني لكتابة هذه السطور.. فهي أنني من عدة أشهر أرسلت له مادةً علميةً للمراجعة والنظر، وشاء الله تعالى أن يصاب الشيخ بفيروس كورونا وهي عنده، واشتد به المرض حتى وصل درجة الخطر، ودخل العناية المركزة، ووُضِعَ على جهاز التنفس، واشتدَّ الأمرُ حتى خشي كثيرٌ من الناس أن يقضي الشيخ نَحْبَهُ في هذا المرض.
ثم شاء الله بلطفه وفضله أن يتجاوز الشيخ مرحلة الخطر، مع أن معدل الأكسجين تدنى عنده من 99 إلى 60 تقريبًا، ومعلومٌ أنه إن تدنى عن 80 فإنَّ الشخص قد تتدهور عنده وظائف الأعضاء خاصة القلب والعقل.
فلما علمت أنه تجاوز مرحلة الخطر اتصلت بولده المرافق له، فكلمت الشيخ وهو يجد المشقة في الكلام، ويكاد لا يتم جملةً إلا ويداهمه السعال الشديد، ولهذا أنهيت الاتصال ولم أطل.
والذي أريده أنه في هذه المكالمة قال لي وهو على تلك الحال: أعتذر منك أني لم آت بمادتك العلمية لأراجعها هنا لو وجدت قدرةً من صحة!، وأنا والله ما خطرت لي ببال، بل كنتُ في ذهولٍ تامٍّ عنها.
وشاء الله أن يخرج من المشفى، ودخلت بعده بيومٍ واحد، فأرسلت له رسالةً نصها: حللت مكانكم في المستشفى الأوروبي، والحمد لله على أقداره.
فلما حصلت العافية كلمته وقلت له: أريد زيارتكم، فلو حددتم موعدًا يناسبكم، فما هو إلا أن أرسل يستأذن بالزيارة، وجاءني إلى البيت بنفسه جزاه الله خيرًا.
ووافق في هذه الزيارة على مشروعٍ تم اقتراحه في التأليف؛ وهو كتابة التفسير الموضوعي؛ فإنَّ الشيخ أوتي بسطةً في هذا الباب بطرحٍ بالغ الجودة، وعسى الله أن ييسر الظروف والأسباب حتى يشرع فيه ويمضي، وألا يحيل الشيخ حائلٌ ولا يعيقه عائقٌ عن ذلك.
وعصر أمس فوجئت بصلاته في مسجدنا وقال: لم أقدر على الوصول إليكم لأسلمكم ما تبقى من المادة بسبب إغلاق الجوال، فقلت: أجدكم في المسجد!.
وفضائل الشيخ كثيرةٌ لا تنحصر، منها ما هو خاصٌّ بي، ومنها ما هو عام.
أما الخاص.. فأكتفي بأنَّه درسني جزءًا حسنًا من النحو، وكان هذا العلم من قبلُ مقفلًا عليَّ في بداية الطلب، فشكوت له ذلك، فحدد لي موعدًا منتظمًا، وشرع في تدريس النحو من خلال طريقةٍ لا أعلم أحدًا سلكها، وفتح الله لي الباب على يديه، ثم اشتغلت بعلم النحو فيما بعد دراسةً وتدريسًا.
وأما العام.. فمنذ كنت قريبًا من الشيخ من نحو عشرين عامًا فإني ما رأيت أحدًا يزهد في الدنيا مع القدرة عليها مثله؛ فالذهب عنده كالحطب، والفقر كالغنى، والمنصب عنده كعدمه، والخبر السار كالخبر السيء، والطعام بالغ النفاسة كالطعام بالغ البساطة، يرضى عن الله على كل حال، وينظر إلى ربه أنَّ محسن إليه غاية الإحسان في كل وقت.
ما أحب أن أختم به هذه المقالة أني كنت أقرأ أنَّ الرجلَ العظيمَ هو من يُشعِرُ النَّاسَ أنهم عظماء لا أنه من العظماء، وهذا تجده عميقًا في سلوك الشيخ وفقه الله، فيعتني بك ويدهشك بلطفه وقربه وعدم تكلفه.
أسأل الله تعالى أن يجزي الشيخ عني وعن الطلبة والمسلمين خير الجزاء، وأن يمتِّع به ويطيل عمره ويُحسِّن عمله، وأن ينزل عليه من بركات الإنتاج العلمي ما يفوح رحيقه بين العباد، وينتشر في البلاد، اللهم آمين، والحمد لله رب العالمين.
تعليقات الفيسبوك