الوعي التربوي

شهر رمضان في حياة الشيخ الشهيد نزار ريان


 بقلم تلميذه الشيخ بشير سليمان


وفي هذا الشهر المبارك لا تجد الشيخ إلا على هدي الصالحين الأولين، ممن كان يطيل القراءة في أخبارهم في "سير أعلام النبلاء" و"حلية الأولياء"، فقد شُغف قلبه بحب الصالحين من العلماء والأولياء والعباد والزهاد وأهل الورع، ورأس الصالحين وسيدهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم "أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ".

 


كان لشيخنا الشهيد غرفة في مكتبته، يخلو فيها في رمضان، يقرأ القرآن، فيقلل من ساعات البحث والكتابة، ويزيد من ساعات تلاوة القرآن.

 


يتجهز للصلاة قبل الأذان، ويخرج إلى المسجد مع الأذان، ويقول بصوته الشجي: الصلاة الصلاة، حتى نخرج جميعا من المكتبة إلى المسجد في إثره، وكان يسابق الشباب والشيوخ إلى الصف الأول، يحب إذا وجد فرجة أن يقف فيها، يتأول حديث النبي صلى الله عليه وسلم "من وصل صفا وصله الله"، أخبرني أنه يريد جمع مادة بعنوان "تعظيم قدر الصلاة"، يلقيها في درس العصر يوميا في مسجد الخلفاء، وكان ذلك في آخر رمضان في حياته، فظننت أنه يريد جمع الأحاديث التي تتحدث عن قدر الصلاة ومكانتها فقط، فأخبرني أنه يريد جمع الأحاديث والآثار التي تحث الإنسان أن يكون معظمًا للصلاة من لحظة خروجه من بيته إلى خروجه من مسجده، كيف يتهيأ للصلاة، يخرج إليها بسكينة ووقار، بأفضل لباس يجده، يصرف الشواغل، يدخل المسجد خاشعا، بتعظيم ووقار، يستجلب الخشوع في صلاته، وكيف كان حال السلف في ذلك.


وكان الشيخ يريد ذلك أولا لنفسه، يتقلد ذلك، تعظيما لقدر الصلاة، وتعظيما لبيوت الله تعالى، وكثيرا ما كنت أسمعه يردد قوله تعالى: "ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب".


لا يخرج إلى الصلاة إلا وفي جيبه مبلغا من المال من فئة 50 شيكلا، يعطي كل سائل، وذلك في كل صلاة يصليها.

 


كان يفيض جودا في رمضان، على الأرحام والجيران والمجاهدين وطلبة العلم، وكان من عادته الدائمة في رمضان؛ توزيع كراتين التمر، وأتذكر عندما دخلت المكتبة فوجدتها تمتلئ بكراتين التمر، أكثر من مائة كرتونة ( الواحدة 5 كيلو)، وكان الشيخ قبل رمضان بأيام يطلب من ابنه بلال أن يبحث عن أفضل أنواع التمر وأجودها مما هو موجود عند التجار، وكان يأتيه بعينات من التمر ليختار الشيخ منها، وإذا كان تمر العنقود جديدا فهو التمر المختار، ثم يهدي تلك الكرتين لأرحامه جميعا وجيرانه وطلبة العلم الملازمين لمكتبته، ويرسل بعض الكراتين لمسجد الخلفاء، لتوزيع التمر على المصلين في صلاة المغرب، وكنت والله أطرب من الفرح عندما أرجع إلى بيتي بكرتونة التمر في أول يوم من رمضان.


أخبرني أنه يريد أن يصنع إفطارا للعاملين معه في مكتبته، واقترح علي أن يكون في بيتي، وأن تجهز والدتي المفتول والقرع، فطرت والله من الفرح، وأبى إلا أن يدفع كل التكاليف، وطلب مني أن أدعو بعض الصالحين والأخيار والأقارب لحضور الإفطار معنا، وخاصة الشيخ محمود دردونة إمام المسجد العمري في جباليا، وقبيل المغرب حضروا جميعا، وحضر الشيخ وزوجاته الأربع، وكان من أعظم الأيام بركة وفرحة وذكرى في بيتنا، وبالأخص على والديَّ حفظهما الله.


وكان لأيام العشر الأواخر من رمضان شأنا عظيما في حياته، ينقطع فيها انقطاعا كاملا إلى ربه، يجاور في المسجد، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرى أن اعتكاف العشر الأواخر فرصة ذهبية للتربية الإيمانية، فكان يحث الشباب على ذلك.


وأنقل هذه الصفحة من كتاب أخي الحبيب براء نزار ريان، قال: 
وكان للوالد رحمة الله عليه مذهبٌ في الإكثار من التعبّد والقيام لا تكاد ترى له في عصرنا مثيلًا، وقد شهدتُّ من ذلك ما يعجبُ منه كلّ من لم يدرك زمان السلف ويطالع أخبار قنوتهم، فمنه أنّه رحمه الله أحيا سنّة اعتكاف العشر الأواخر من رمضان كاملة ليلًا ونهارًا. 

وكانت قد زالت من بلادنا بالكامل، فلم أر مسجدًا ولم أسمع أقيم فيه اعتكاف تامٌّ قبل مسجد الخلفاء الراشدين. وكان رحمه الله عاد من دراسته بالسودان، فقدّم أوراقه للعمرة في أول رمضان يمرّ عليه بفلسطين، فمنعه اليهود لعنهم الله. فقال: لئن فاتتني العمرة، لن يفوتني الاعتكاف. فأمرنا فجهّزنا له بمكتبة المسجد القديمة فراشًا، ودخل معتكفه قبيل مغرب يوم عشرين رمضان سنة 1415، فلم يغادر سنّته في الاعتكاف حتى قضى يرحمه الله سنة 1430. 

وكان اعتكافُه تطبيقًا عمليًّا لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم. عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ؛ أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ وَجَدَّ، وَشَدَّ الْمِئْزَرَ".

وكذلك كان يفعل يرحمه الله، وقد اعتكفتُ معه كلّ اعتكافٍ مذ كنتُ في التاسعة، وحتى استشهد رحمه الله، فكان في أوّل أمره يصلّي كلّ ليلة فيقرأ خمسة عشر جزءًا من كتاب الله؛ فيختم كلّ ليلتين، وفي العشر الأواخر يختم القرآن خمسًا. وكدتُّ والله أحفظ القرآن لكثرة ما أسمعه من في والدي رحمه الله في تلك الأيّام، وصرتُ إذا تليت علي طرف الآية من كتاب الله أتممتُها، بفضل الصلاة خلفه، وختم القرآن مرارًا في تلك المدّة الوجيزة.


ثمّ إنّه فطن إلى  ما رواه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِي كَمْ أَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ:"فِي شَهْرٍ". قَالَ: إِنِّي أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ، وَتَنَاقَصَهُ حَتَّى قَالَ: "اقْرَأْهُ فِى سَبْعٍ". قَالَ: إِنِّي أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ. قَالَ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَهُ فِى أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثٍ". فعدل في أعوامه التالية عن ذلك، وصار يقرأ كلّ ليلة عشرة أجزاء في عشر ركعات، ويوتر بثلاث، فيصيب السنّة في القراءة وعدد الركعات. وبقي على ذلك حتّى استشهد. 

 


وقد صلّيتُ خلفه غير مرّة فقرأ بعشرة أجزاء في ركعة واحدة من العنكبوت إلى النّاس. وقيل ذات مرة: إنّ الشيخ يشرعُ في صلاته أحيانًا، فما يوقفه إلا طلوع الفجر أو دفّة الكتاب الكريم، أو اجتياح الصهاينة!
فصلّى بنا ليلتها، فقرأ يرحمه الله خمسة أجزاء في ركعة واحدة، وقد عزم على إتمام عشرٍ، فجاءه رجلٌ فهمس في أذنه بكلمة وهو يصلّي، فركع. فلمّا انفتل من صلاته قال: فليقم المجاهدون إلى مواقعهم، فإنّ الصهاينة قد دخلوا شمال غزّة، فانطلق الشباب من المسجد، وما بقي فيه أحد إلا خرج لتصدي اليهود أو إعانة المجاهدين، وردّ الله اليهود بغيظهم لم ينالوا خيرًا.

 


ولا أحصي ما سمعت والدي رحمة الله عليه يدعو في قيامه باكيًا: "اللهم شهادة في سبيلك!" ولدى الباحث(براء) تسجيل يحتفظ به من دعاء الوالد رحمه الله في ليلة السابع والعشرين من رمضان سنة 1428، وكان قد منعه وغيره من التسجيل، غير أن أحد الشباب لم يسمع نهيه، فسجّله. وأخذه الباحث خفية واحتفظ به!  والعجيب أنه يقول في ذاك الدّعاء: "اللهم خذنا جميعًا شهداء، خذنا، خذ أولادنا، خذ بناتنا، خذ أزواجنا، خذنا جميعًا إليك"! انتهى.


طبت حيا، وأقر الله عينك بحياة الخلود شهيدا، في الرفيق الأعلى؛ مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.


منذ فارقتنا، ولهيب الشوق يعصف بنا.

تعليقات الفيسبوك

كن معنا في نشر الوعي

"وتتعمّد منهجيتنا التربوية تربية صفوة كبيرة الحجم من الدعاة تتكون منها قاعدة صلبة للعمل الدعوي وتحمل أثقاله، وتصبر على طول الطريق، وتتكون منها الطبقة القيادية، ثم نحاول صناعة طبقة واسعة من الموالين للدعوة". 11

كن معنا