بُح بالحب
عبد الله يوسف*
صارحني يوماً: إنّه لا يُبادلني مشاعر الحب، أرسل له sms ولا يتفاعل معها، أتحدث معه ولا يُعيرني اهتماماً، أُلمّح له بحبي وإعجابي به لكنه كأنه خُشبٌ مُسنّدة!.
ماذا تنتظر حتى تعبّر له عن أسفك تجاه موقف ما!، وعن اعتذارك في الحوار الذي أخطأت التعبير فيه؟ .. هل كبرياء نفوسنا هو ما يمنعنا من الأسف والاعتذار والتعبير عن الزلل؟!
هل تنتظر أن يرحل عن هذه الحياة حتى تعترف له بحبك؟ أو تبادله شعور الإعجاب والقرب والشوق؟ .. ها هو قد رحل! ..
هل ينبغي عليّ أن أُسعِد أذناه بقولي له: أحبك، وهو على سرير العناية المُركزّة؟ أنا آسف على كل لحظة قضيتها وأنت غضبان مني ..
ها هو قد استُشهد! ..
وقد كان من أول خطوةٍ له في طريق الالتزام مقبلٌ على إخوانه، يريد بذلك أن يتحسّس رفقةً جديدة له، يتنسّمُ فيها عبير تلك المعاني التي تتحرك في صدره، فيكون لقاء في مسجد، ودعوة لبيت، ورفقة في ساعات من ليل ونهار، وحوار في أطراف المساء، ورباط على الثغور، ورحلاتٍ وأسمار، يجمعهم العمل الإسلامي، وتتناوشهم أفكار من هدي وهدى، ويزدادُ معهم تعلماً، وتواصلاً، وقرباً من الرب الرحيم، ويشعر رويداً رويداً أنه قد أسّس له مجتمعاً خاصاً يقوم على روح جديدة هي روح الإخاء.
ثم ما يلبثُ أن يسير في طريق الإخاء حتى ترتطمَ روحه بأرواحٍ خشنة، ويصطدمُ قلبه بقلوبٍ لها أسوار صلدة، وتقف أمام كلماته الدافئة الرقيقة صرخات عالية!.
إذن، فلماذا تتجمّد مشاعرنا مع مَنْ نحب؟ ولماذا كل هذه اليبوسة في قلوبنا؟ وهل الحب في الله أصبح "المادة المنسية في منهج الإسلام"؟، ولماذا لا نترك لها العنان لتعبّر عن ذاتها وحبها وإعجابها؟
ذكرت لنا كتب السيرة أن الفاروق عمر t "حِينَ كَانَ يَذْكُرُ الرَّجُلَ مِنْ إِخْوَانِهِ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ فَيَقُولُ: يَا طُولَهَا مِنْ لَيْلَةٍ فَإِذَا صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ غَدَا إِلَيْهِ فَإِذَا الْتَقَيَا عَانَقَهُ".
عمر .. بجلالة قدره، وعنفوانه، وقوته، وصلابته، وصرامته يستطيل الليلة التي يتذكر بها أحد إخوانه، وربما لا ينامها حتى يصلّي الفجر ويُسلّم عليه ويعانقه!
عمر الخليفة، المشغول بأمر الأمة، والفتوحات، وإطعام الناس، والاستماع لهم وحل مشاكلهم، ونصرة المظلوم، والقضاء بين الخلق يتقلّب في فراشه شوقاً لأحبابه !!.
إنّه معاذ يا عمر، أمير المؤمنين، وخليفة رسول الله يحبك ويشتاق لرؤيتك ..
هل هذا الشوق يُنافي شدّة عمر؟! ..
هل إعلان هذا الحب يُنافي صلابة عمر؟! ..
هل يقدح في رجولته؟ ..
أم هل ينتقص من مقامه الكريم؟ ..
عن أَنسٍ t أَنَّ رَجُلًا كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، فَمَرَّ بِهِ رجل، فَقال: يا رسول اللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّ هَذا، فَقَالَ لَهُ النبيُّ ﷺ: أَأَعْلمتَهُ؟ قَالَ: لا قَالَ: أَعْلِمْهُ فَلَحِقَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّكَ في اللَّه، فقالَ: أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْببْتَنِي لَهُ. رواه أبو داود بإِسنادٍ صحيح.
هنا أمرٌ نبوي بإعلان الحب، واعتراف المحبين به، وإفشائه بين الناس، وهو حرصٌ منه e على نشر ثقافة الحب في الله بين الناس بلا مصلحةٍ دنيوية أو حاجة، وهو الذي وصف المؤمن بأنه ألِف مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يُؤلف!!
لا خيرَ فيمن لا يعرف قلبه للحب طريقا، ولا للألفة صعيدا، ولا يجد لقلبه حبيبا، ولا لوحشته مؤنسا، .. ولا لروحه شِقّا!.
كتب لي يوماً أميري عبد الحميد:
"أيّ قلب لا يحمل المشاعر هو ليس بقلب، وأي روح لا تحمل الحب للآخرين لها مسمى آخر غير (روح)، أيّ فؤاد لا يتألم لإخوانه يمكن أن يكون فيه كل المعاني إلا معنى الرحمة، وكل نفس لا تطلب العون من ربها فيها كل معنى يكون إلا معنى العبودية، وأي مسلم لا تتحرك في نفسه مشاعر الحب والحنان والتأثر هو النقص بمكان".
إنّه الحبيب e الذي بشّر المتحابين في الله أن لهم حول العرش منابر من نور، عليها قوم لباسهم نور، ووجوههم نور، ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء، فقالوا: يا رسول الله صفهم لنا، فقال: هم المتحابون في الله، والمتجالسون في الله، والمتزاورون في الله ..
بل إنه e ليجعل عاطفة القلب في أداء الأخوة أصلاً لا يتم الإيمان بدونه، وليست فضلاً يتفضلُ به الأخ على أخيه، فيقول : لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
ومن المشاهد العذبة التي تستثير كوامن العاطفة وتوثق أواصر الحب، ما ورد عنه e في قوله : إن رجلاً زار أخا له في الله، فأرصد الله ملكا، فقال: أين تريد؟ قال: أريد أن أزور أخي فلاناً، فقال: لحاجة لك عنده، قال: لا، قال: فبم؟ قال أحبه في الله. قال الملك: فإن الله أرسلني إليك بأنه يحبك لحبك إياه، وقد أوجب لك الجنة.
الله يُحبّك لِحُبّكَ لأخيك .. ثم لا تجدُ لك حبيباً ..!
وأبلغ من ذلك أن يدفع الرسول e أصحابه إلى التنافس في هذا الحب ويؤسس عليه درجات المتاحبين عند الله حين يقول : ما تحابّ اثنان في الله إلا كان أحبّهُمَا إلى الله أشدهما حبًا لصاحبه .
الله أشدُّ حباً لِمنْ يحبُ صاحبه أكثر .. ثم لا تجدُ لك صاحباً وصديقا ..!
وانظر أيها المُحب لهذا المشهد الجمالي الجلاليّ من سيرة الحبيب e عن أنسٍ أنَّ رجُلًا مِن أهلِ البادِيَةِ اسمُه زاهِرٌ كان يُهدي للنبيِّ e فقال النبيِّ: زاهِرٌ بادِيَتُنا ونحنُ حاضِرَتُه، وكان النبيُّ e يُجَهِّزُه إذا أراد الخُروجَ إلى البادِيَةِ، وكان زاهِرٌ دَميمَ الخِلقَةِ فأتاه النبيُّ e وهو يَبيعُ شيئًا له في السُّوقِ فاحتَضَنه مِن خَلفِه ، فقال له: مَن هذا؟ أَرسِلْني، والتَفَت فعرَف النبيَّ e فجعَل النبي e يقولُ: مَن يَشتَري مِنِّي هذا العبدَ ؟ وجعَل هو يَلصِقُ ظهرَه بصدرِ النبيِّ e ويقولُ: إذًا تَجِدُني كاسِدًا ، فقال له النبيُّ e: ولكنَّكَ عِندَ اللهِ لستَ بكاسِدٍ.
أرأيت يا أخي كيف كانت مادة الحب في مدرسة الإسلام الأولى، وفي أستاذها الأكبر صلوات الله وسلامه عليه ؟
لقد كان النَّبيُّ e وَدودًا لَطيفًا، يُداعِبُ أصحابَهُ، ويُلاطِفُهم، ويُمازِحُهم، ويَضْحَكُ معَهم، ويُحبُّهم e، ومضت سُنّة المحبين حتى خَرَجَ عبد الله بن مسعود عَلَى أَصْحَابِهِ يَوماً فَقَالَ: أَنْتُمْ جَلَاءُ حُزْنِي، وغازلَ طلحة بن مصرف مالك بن مغول فقال له طَلْحَةُ: لَلُقْيَاكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْعَسَلِ.
وكتبتُ يوماً إلى خالد الشهيد بعد فترةٍ لم ألتقي به، وقد كنّا نلتقي بين المدة والمدة إلا أنها طالت فكتبتُ له على منتدى المحراب:
من يبلغ أشواقي إلى أخي ونور قلبي ..
إلى قلبي وشجن روحي ..
إلى روحي ومدمع عيني ..
إلى عيني ومقلة قلبي ..
إلى أخي .. قلوب بيضاء..
وكتب خالدُ الشهيد يوماً إلى "ريحانة قلبه" مُحمّد فأبدع حين رسم للحُبّ لوحة بقلمه الصغير، فهمس أن:
"كم هو جميل ذاك الشعور الذي ينسابُ بين شرايين القلب عندما أذكرك، قد لا تعلم مدى محبّتي لك في الله .. آه لو تدري.
فكُلّما نظرتُ إلى الورقات التي تخُطّها بيمينك تنهالُ دموعي، ولا أملكُ لها رداً ..
آه لو تدري كم قمتُ في الله وقت السحر .. أدعو لك في ظهر الغيب!
محمد .. يا حبيبي .. أنت قريبٌ مني، تماماً كما لو كنتَ بعضاً مني، بل لربما أقول أنك تسكنُ قلبي، أو تسكنُ الغرفة التي في سويدائه !
يقول: دائماً أنت في بالي، حتى أنت معي في حلمي، وعندما أستيقظ وبسرعة وبلمح البصر تخطر على بالي، لا أستطيع أن أنساك ولا أسمح لقلبي أبداً أن يتركك؛ لأنه اختارك لتكمل معه الطريق، ولقد تركتُ كل الدنيا من حولي لنمشي طريق الجنة سوياً، ونبني قصورنا بالطاعات، فلله درُّك يا حبيبي!
وثق وتأكد أنني لن أنساك أبداً .. وكيف أنساك؟ وقد أهديتك قلبي! ورغماً عن كل شيء سنبقى بإذن الله ومشيئته أخوين متحابين في الله، وأدعو الله من كل قلبي أن يجمعنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله .. آمين.
فلنرتقب وننتظر يوم نلقى الله عز وجل وينادي في الخلائق: أين المتحابون في جلالي، اليوم أُظّلهم في ظلّي يوم لا ظل إلا ظلّي. ويُظّلنا تحت عرشه العظيم ..
محمد "ريحانة قلبي" .. من يسبق ينتظر هناك .. ومن يبقَ يُوفِّ ويلحق.
محبك .. من أحبّك بكل صدق، ونقش اسمك على جدران قلبه .. خالد أبو العز". انتهى
وجمع داعيةُ الإخوان عباس السيسي رسائله لإخوانه ورسائلهم إليه في ثلاثة أجزاء أطلق عليها: الدعوة إلى الله حب!.
أخي المحب، هذه مقالتي بين يديك فإذا ما انتهيت منها تذكرت إخواناً لك سبقوك إلى ربهم ومن ينتظر منهم وخُصّهم بدعوةٍ بأسمائهم، وادعُ بدعاء الرابطة الإيمانية: "اللهم إنك تعلم أن هذه القلوب قد التقت على طاعتك، وتوحدت على دعوتك، وتعاهدت على نصرة شريعتك، فوثّق اللهم رابطتها، وأدم ودها، واهدها سبلها، واملأ قلوبها بفيض الإيمان بك، وجميل التوكل عليك، وأحيها بمعرفتك، وأمتها على الشهادة في سبيلك، إنك نعم المولى و نعم النصير".
هو ذا خبر (بُح بالحب) فأَقبِل ودَوِّن اسمك في صحيفة المتحابين في الله، ثم نأتيك بتفصيلٍ لك ولكل راضٍ بإخاءٍ عالي ..
رئيس مؤسسة عبير الوعي – قطاع غزة
الأحد 06/03/2022م
تعليقات الفيسبوك