قصتي مع الراشد
بقلم: عبد الله يوسف
سبعة مشاهد من الصغر رسمت علاقتي مع الشيخ عبد المنعم صالح العلي العزّي المعروف حركياً بمحمد أحمد الراشد رغم أنّني لم أتشرف باللقاء به وجهاً لوجه.
المشهد الأول: عام 1994م
كنت طالباً في المرحلة الإعدادية حيث إخواني الثلاثة معتقلون في السجون الإسرائيلية، وكان أخي الأكبر يعمل (محامياً) يدافع عن قضاياهم أمام جلسات المحاكم الإسرائيلية، ويزورهم في سجونهم، ويتفقد أحوالهم، ويأخذ معه ما يحتاجون من أغراض وملابس وكتب، وكان من أهم الكتب التي كان يصحبها في كل زيارة كتب الشيخ الراشد الأشهر (المنطلق، العوائق، الرقائق، والمسار)، وكنا نمتلك يومها مكتبة مقابل الجامعة الإسلامية بغزة، وكان إخوتي يستوردون هذه الكتب من خارج غزة التي كانت تشرف على طباعتها مؤسسة الرسالة في بيروت، وكان أخي المحامي يستقدم هذه الكتب بكميات ويضعها في بيتنا، وعند كل زيارة لأخوتي في السجون كان يأخذ نسخاً منها لشباب حماس في تلك السجون.
وفي يوم من الأيام أخذت نسخة من هذه الكتب الأربعة ووضعتها في مكتبتي الصغيرة التي لا تحوي إلا الكتب المدرسية، ولم أقرأ منها شيئاً رغم وجودها في المكتبة لسنوات، وبعد دخولي المرحلة الدراسية الثانوية، وبعد خروج أخي من السجن رأى هذه الكتب في مكتبتي فقال لي: إذا لم تقرأ في حياتك إلا كتب الراشد هذه لكفتك!
لم آخذ بكلمته آنذاك، لكنها بقيت مزروعة في داخلي مصمماً على قراءتها فيما بعد..
المشهد الثاني: عام 1996م
في السنة الأولى من المرحلة الثانوية، وبعد أن أصبحت السلطة الفلسطينية وكيلاً أمنياً لإسرائيل في قطاع غزة، وبدأت في محاربة حماس واعتقال أفرادها وتعذيبهم، كنت وقتها أعمل في صفوف الكتلة الإسلامية – الجناح الطلابي لحماس -، وقد داهمت قوات السلطة بيتنا أكثر من مرة ليلاً، وفي مرة من هذه المرات وجد أفراد من جهاز الأمن الوقائي – الذي كان وقتها يتبع لمحمد دحلان – في غرفتي على مجموعة كبيرة من نشرة طلابية اسمها (الجيل المؤمن) وهي نشرة كانت تطبع وتوزع شهرياً وتشرف عليها الكتلة الإسلامية، فقاموا بمصادرتها من غرفتي، وأثناء خروج الضابط المسئول عن الحملة من غرفتي لفت انتباهه مكتبتي الصغيرة ومن بينها كتب الراشد، فقال لي: وتقرأ للراشد أيضاً ؟ قلت له: نعم.
وقتها لم أكن أقرأ للراشد، بل كانت إجابتي تلك لذلك الضابط مجرد نكايةٍ به.
المشهد الثالث: عام 1998م
في العام الأخير من مرحلة الدراسة الثانوية، كُلفت بإمارة (الكتلة الإسلامية) في مدرسة أحمد الشقيري الثانوية، وشكلت فريقاً متميزاً من الشباب العامل والمُفعم بالأمل وحب العمل لدين الله ودعوته.
ولأن العاملون وقتها كانوا محدودين؛ بسبب ممارسات السلطة الفلسطينية ضد أبناء حماس، فقد كانت الأنظار تتّجه إلينا من الإخوة في قيادة الحركة في منطقتنا، وعلى رأسهم الأخ أبو مصعب حماد الذي أرسل لنا أخاً كريماً ليكون أول أمير أسرة لنا وهو الأخ المهندس خميس المصري (أبو أسامة)، وتواصل معنا وتم ترتيب أول جلسة لنا في منطقة العلمي في أرض مفتوحة، وقد جمعني في هذا اللقاء مع الأخ الحبيب الشهيد صهيب تمراز، وكان ذلك في العام 1998م.
عرّفني شيخي أبو أسامة على كتابَيْ المنطلق والعوائق وكانا ضمن منهجنا التربوي فدرسناهما بشغف، ثم انتقلنا إلى رسائل العين، ومسافر في قطار الدعوة.
وأذكر أننا بحثنا عن كتب الشيخ الراشد في كل مكتبات غزة فلم نجدها، لكنني ما زلت أذكر صاحب إحدى المكتبات حين سمح لنا أن ندخل مخزن مكتبته الذي كان بدون كهرباء لنفتش فيها عن شيء يسد الرمق من كتب الدعوة لا سيما مؤلفات الراشد فوجدنا بين الأرفف وتحت الغبار رسالة تقرير ميداني ففرحنا بها فرحاً شديداً كأننا وجدنا كنزاً!
المشهد الرابع: عام 2001م
وضعت اسم (محمد أحمد الراشد) في محرك البحث Google فأرشدتني إحدى صفحات البحث إلى موقع اسمه (المسار) تيمناً بكتاب المسار للشيخ الراشد ففرحت كثيراً، وتصفحته كله في يوم واحد، ونسخت منه ملفات عدة وتصميمات ما زلت أحتفظ بها إلى اليوم، إلا أنه لم يستمر طويلاً حيث قامت جهات معادية باختراقه وتحويله إلى موقع غير أخلاقي!
وبعد فترة وجيزة وبعد جلسة بحث على Google وجدت موقع اسمه (الرواق) فتلقفته بشغف، وسجلت فيه عضواً باسم (سليل المجاهدين) واستمتعت به، وتعلقتُ به تعلقاً شديداً، وتعلّمتُ منه أشياء عظيمة، حيث كان الشيخ الراشد هو من يرعى هذا الموقع، ويرشد القائمين عليه، وينصحهم ويوجههم.
وتعرفت من خلال (منتديات الرواق) على أحبة كرام منهم: أستاذي الحبيب عبد الحميد الكبتي من ليبيا المختار، وأستاذي الفاضل أبو خالد الجكني من الجزائر، وأخي علي هادي من العراق وغيرهم من الشباب المؤمن الطاهر، وصرت أحد المشرفين على هذا الموقع إذ كلفني (أمير الرواق) بأن أكون مشرفًا على (رقراق الرواق)، واستمرت الصحبة والعطاء من خلال الرواق لسنوات.
وكان من ضمن مهامي في الرواق تفريغ كلمات ودروس الشيخ الراشد التي كان يلقيها في المساجد والمراكز الإسلامية في سويسرا، وأذكر من هذه التفريغات تلك المتعلقة بالدروس المستفادة من غزو أمريكا للعراق، وكذلك كلمة الشيخ في افتتاح (مركز الآفاق الدعوية) التابع لموقع الرواق.
المشهد الخامس: العام 2002م
حفظاً للحقوق الفكرية للشيخ فإنه كان يمنع أصحاب دور النشر من طباعة كتبه دون إذن مسبق منه، ورغم ذلك فإن كثيراً من دور النشر قامت بطباعة كتبه وبيعها دون إذن شرعي منه، حتى أن بعض الدعاة -للأسف- قام بتأليف بعض الكتب باسم محمد أحمد الراشد لترويج بضاعته وكسبه بعض المال!.
وفي نهاية عام الـ 2000 أنتج الشيخ الراشد مجموعة مهمة من الكتب كان منها: أصول الاجتهاد والإفتاء التطبيقي في نظريات فقه الدعوة الإسلامية في أربع أجزاء، وكتاب سبائك السبكي، وصراطنا المستقيم، وآفاق الجمال، والفقه اللاهب.
وفي هذه الفترة قد شدّد الشيخ على الحقوق الفكرية لهذه الكتب بالذات، فقد قام بكتابة ورقة في بداية كل كتاب يوضح أنه سيلاحق قانونياً وعبر المحاكم كل من يقوم بطباعة مؤلفاته الجديدة دون إذن مسبق منه، ووضع حق النشر لدار المحراب في سويسرا.
وقد نجحت بفضل الله تعالى أن أتلقّى أول بريد في حياتي من خارج غزة، وهو عبارة عن مجموعة كتب الشيخ الراشد الجديدة، وقد أحضرت خمس نسخ منها للقطاع ووزعتها كالتالي:
نسخة أهديتها للشيخ أحمد ياسين.
ونسخة ثانية أهديتها للشيخ نزار ريان.
ونسخة ثالثة أهديتها للأستاذ فتحي حماد "أبو مصعب".
ونسخة رابعة أهديتها لأخي خميس المصري "أبو أسامة".
ونسخة خامسة أهديتها لنفسي.
وذهبت مع أخي أبو مصعب إلى بيت الشيخ أحمد ياسين وقمنا بتقديم الكتب هدية له، وطلبنا منه أن يقوم بتصوير مقطع فيديو قصير يشكر فيه الشيخ الراشد على إنتاجه الفكري، وأن أبناء حماس وقيادتها قد تربوا على كتبه ومؤلفاته في السجون وخارجها.
وقد طلب الشيخ أحمد ياسين من الشيخ الراشد في هذا الفيديو أن يسمح لنا بطباعة إنتاجه الأخير، وقمت في ذاك الوقت برفع الفيديو عبر موقع القسام ليشاهده الشيخ الراشد، وقد شاهده فعلاً، وأرسل لنا الكتب بصيغ مفتوحة وطبعناها في قطاع غزة، وقد وصلت لجميع الإخوة في الصف القيادي.
المشهد السادس: عام 2005م
ومن بركات موقع الرواق ومنتدياته الجميلة، أنه في ذكرى تأسيس حماس وبمناسبة فوزها في الانتخابات التشريعية طلبت من الشيخ مع بعض إخواني في (فريق الرواق) أن يكتب شيئاً عنها، فكتبت رسالةً للشيخ بهذا الأمر ثم تفاجئت بعد أسبوع بـرسالة (رمزيات حماسوية)، وقمتُ وقتها بإرسال مسودتها للأخ أبو العبد هنية ليشرفها بمقدمة قصيرة، وتم طباعتها بمقدمة أبو العبد في قطاع غزة 20.000 نسخة وفي العراق والجزائر بنفس الكمية.
المشهد الأخير: العام 2014م
في هذا العام تم عقد دورة لشرح كتاب "منهجية التربية الدعوية" مع الأستاذ الفاضل أبو أحمد ياسر في قاعة مسجد الحق، واستمرت الدورة مدة من الزمن، وكانت في قمة الروعة.
في هذه الدورة، وأثناء دراستي واستماعي لمناقشاتها بدأت أفكر كيف يمكن أن نحوّل منهجية التربية الدعوية من عمل يقوم به المربين بشكل منفرد إلى عمل جماعي مؤسسي، وصرتُ أدوّن ملاحظاتي وأفكاري العملية على الصفحة الأخيرة من الكتاب، وبعد انتهاء الدورة وفي أثناء معركة العصف المأكول كتبت المسودة الأولى لمشروع "مؤسسة عبير الوعي للدراسات والتدريب والتطوير" الذي جاء تطويراً لمعهد قائم كان يُطلق عليه "معهد الدعوة التربوي".
وفي ليلة من ليالي الرباط الغزّية جلس ثلاثتنا: الأخ الحبيب أبو محمد ثروت، والأخ ماجد أبو محمد، وأخوكم الفقير.. جلسنا على رصيف من أرصفة مدينة الشيخ زايد في شمال قطاع غزة وكتبنا البروشور التعريفي بهذه المؤسسة: الرؤية، الرسالة، الغايات، الأهداف، .... حتى أن الشيخ الراشد نشر ما كتبناه في هذه الليلة في رسالته التي أصدرها لاحقاً بعنوان (تمام البيان).
واستطعنا - بفضل الله تعالى- أن نقيم لفكر الراشد مؤسسة، وقد اخترت هذا الاسم وتشاورتُ فيه مع أستاذي الحبيب عبد الحميد الكبتي، وكنت على رأسها، نُدرّب الشباب، ونهتم بالجيل من خلال وسائل نشر الفكر المختلفة خاصة التدريب، والأنشطة الشبابية، والندوات، وحلقات النقاش..
وتميزت عبير الوعي بعد ذلك بطباعة كتب الشيخ الجديدة (مقدمات الوعي التطويري)، و(استعلاء الدعوة)، وسبعة رسائل من سلسلة (مواعظ داعية) وتم نشرهم بآلاف النسخ في قطاع غزة، توزيعها بالمجان على الصفوف القيادية للحركة.
ختاماً، لقد تأثر الآلاف من أبناء الدعوة في فلسطين وخارجها بكتابات الشيخ الراشد، وفكره، وأسلوبه في التنظير والتأصيل للعمل الإسلامي الحركي بصيغته الحديثة، لذا فقد خصّصت مؤسسة عبير الوعي زاوية (قصتك مع الراشد) من خلال موقعها على الإنترنت ليدّون الإخوة قصتهم مع الراشد وفكره وكيف أصبحوا جزءاً من مدرسة الجمال الدعوي الذي كان وما زال الراشد رائدها.
([1]) مقال تم كتابته يوم الثلاثاء 19/04/2022م الموافق 18 رمضان 1443هـ.
تعليقات الفيسبوك