القيادة الفكرية والقيادة السياسية انفصام أم تكاممل؟
عبد الله يوسف اللداوي*
حين توفي النبي صلى الله عليه وسلم، وضجّ الناسُ، وغلبت العاطفة عقولهم، وتمايزت أمزجة الصحابة في قبول خبر الوفاة وتمريرها على عقولهم وقلوبهم: برز صوت الفكر القرآني الذي صدح به الخليفة القادم: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ ۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰٓ أَعْقَٰبِكُمْ"، ليُلجم نزوات العواطف، وتغريدها خارج سرب الشريعة، ويردها إلى ما جاء به الوحي الأمين، القرآن الكريم الذي حمل بين ثناياه خبر وفاته e في مواطن عدّة.
وقف أبي بكر لينصب ميزان القرآن بين عقول الرجال وقلوبهم، ويُعيد للعقول أَلَقَهَا بعد أن سكِرت من خبر وفاة حبيبهم e، ويخبرهم أن "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت".
أراد أبو بكر بذلك أن يعيد الأمور إلى نصابها، ويضبط اتجاه البوصلة الإسلامية نحو دستورها الخالد، ويربطهم بالفكرة ذاتها لا بأشخاصها، فما زال المسلمون حديثو عهدٍ بالنبي e فكيف لهم أن يُغيّروا ويبدّلوا بهذه السرعة!
ومن هذا المشهد المهيب الذي ما كان يتوقعه كثير من الناس، وصولاً إلى مشهد سقيفة بني ساعدة الذي كاد أن يعصف بالدولة المسلمة الوليدة بعد وفاة قائدها مُحمّد e لولا مبادرة الفاروق عمر بمدّ يده مبايعاً أبي بكرٍ على الخلافة، وصولاً إلى بدايات القرن العشرين حيث إلغاء الخلافة العثمانية آخرُ شكلٍ من أشكال الخلافة الإسلامية.
ومن لحظة استلام القائد الجديد لشؤون الدولة أصبح يمثل القائد السياسي والعسكري لها، كذلك يمثل هو ومجلس الحل والعقد جهة سن القوانين والتشريعات والفتاوى التي تنظم شؤون الناس الدنيوية والأخروية، إذ لا حاجة لهم بعلماء وفقهاء يسدون عنهم هذا الثغر، فهم أصحاب الفكر والفقه والعلم، وهم الأقدر على البت في شؤون الدولة والناس، بعقلية قيادية فكرية تكاملية.
وسار على دربه الخلفاء الراشدين من بعده، وبعض من الخلفاء الأمويين من بعدهم إذ لا حاجة لهم -أيضاً- لعلماء السلاطين وفتواهم المُفصّلة حسب المقاس!
حتى جاء من بعدهم خلفٌ من الخلفاء والأمراء فقراء من القرب إلى الله، وبضاعتهم الفقهية ضحلة، فحادوا عن الطريق القويم، وعن موازين الإسلام في القيادة والسياسة والحكم، جاءوا بمن يغطي نقصهم الفقهي ليُفتي لهم ويشرّع للناس وفقاً لأهوائهم ومصالحهم وسياستهم، حتى بات يطلق على المنهج الفقهي ذاته (الفقه السلطاني).
ومن هنا بدأ الانحدار الأخلاقي في كل مناحي الدولة المسلمة، ومن هنا بدأ انفصال القيادة الفكرية عن القيادة السياسية.
ثم شهد العالم الإسلامي بعد إلغاء الخلافة العثمانية تأخراً واضحاً في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية، ممّا دفع بعض المفكرين وأصحاب الرأي إلى طرح مشروعات تُخفّف من أثر الأزمة، وتحاول اللحاق بالقطار الحضاري الغربي الذي كان لتوّه منطلقاً بقوة البخار والعلم التجريبي، والثورة على الكنيسة المتحكّمة في كل ذرّات الحياة الأوروبية.
محاولات نهضوية
ومن ملامح محاولات بعض رجالات الأمة في النهوض بعد كبوتها رفاعة الطهطاوي (1801م -1873م) الذي رأى من خلال كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) بعد زيارته لفرنسا أن خلاص الأمة من وهنها وضعفها هو تقليد الغرب واتباع الخطوات التي خطاها نحو يقظته وحضارته، الأمر الذي دفعه إلى تأسيس (مدرسة الألسن) التي قادت حركة الترجمة الفرنسية إلى العربية في عهد محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك.
وبعد ذلك حاول خير الدين التونسي (1890 - 1820) وهو أحد رموز الإصلاح في تونس، ووضع كتاباً أسماه (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك) وكان يرى أن الحركة الإصلاحية تقوم على دعامتين رئيستين هما: ضرورة التجديد والاجتهاد في الشريعة الإسلامية، بما يتلاءم مع ظروف العصر وأحوال المسلمين، ويتفق مع ثوابت الشريعة، والثانية ضرورة الأخذ بالمعارف وأسباب العمران الموجودة في أوروبا؛ لأنها طريق المجتمع إلى النهوض.
ثم دخل على منصة أصحاب التأثير عبد الرحمن الكواكبي (1855م – 1902م) أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، صاحب كتاب (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) الذي رأى أن الحل يكمن في إنهاء الاستبداد السياسي، وتقييد الحكام، وإصلاح أخلاق الراعي والرعية.
كما نظر محمد عبده (1849م - 1905) الذي يُعتبر من مؤسسي النهضة المصرية الحديثة، ومن كبار الدعاة للتجديد والإصلاح والتنوير أن مشكلة العالم الإسلامي وبداية عودته للسُّلم الحضاري تبدأ من إصلاح التعليم والقضاء.
بينما اعتبر رائد الإصلاح الإسلامي، وصاحب مجلة المنار محمد رشيد رضا (1865م – 1935م) أن الحل يكمن في العودة إلى التراث الإسلامي وإعادة إحيائه من جديد في نفوس المسلمين، وهو الأمر الذي كرّس له حياته وجهده وبحثه، حيث قام بتأسيس (مجلة المنار) التي قال فيها أن "الهدف منها هو الإصلاح الديني والاجتماعي للأمة، وبيان أن الإسلام يتفق مع العقل والعلم ومصالح البشر، وإبطال الشبهات الواردة على الإسلام وتفنيد ما يعزى إليه من الخرافات".
وكان ممّن تأثر بفكر محمد رشيد رضا الإمام الشهيد حسن البنا (1906م – 1949م) الذي ما زالت مساهمته الحركية واضحة في عالمنا العربي والإسلامي من خلال تأسيسه لجماعة الإخوان المسلمين، والذي اعتبر أن العودة لأستاذية العالم، وإعادة مجد الإسلام وحضارته الغائبة هو من خلال إيجاد تنظيم إسلامي يصلح الفرد المسلم، فالأسرة المسلمة فالمجتمع المسلم فالحكومة المسلمة وصولاً إلى الدولة المسلمة.
ثم كانت مساهمة هندية من الشيخ أبو الأعلى المودودي (1903م – 1979م) مؤسس مجلة (ترجمان القرآن)، وصاحب فكرة تأسيس الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، ومؤسس الجماعة الإسلامية في الهند وباكستان، الذي تأثر بالمساهمة الحضارية للأستاذ البنا وبنّى عليها، إلاّ أنه لم يستطع تحقيق حلمه في إصلاح الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في باكستان.
وفي اتجاهٍ آخر اعتبر رائد الفكر الحركي الإسلامي، وصاحب تفسير الظلال الشهيد سيّد قطب (1906م – 1966م) أنه لا بد وأن توجد طليعة إسلامية تقود البشرية إلى الخلاص، وكتب في هذا الأمر كتابه الذي جرّه إلى حبل المشنقة (معالم في الطريق) الذي اعتبره البعض بأنه الكتاب الملهم لحركات السلفية الجهادية في العالم العربي الأمر الذي حمّل سيداً أوزاراً ليس له فيها نصيب.
ويأخذنا رئيس تحرير جريدة الإخوان المسلمين، وملهم الحركات الجهادية إلى تنظيمي القاعدة والدولة التي اعتبرتا أن الحل يكمن في التسليح والقتال، وإن كان هناك بعض الإشارات الأمنية أنهما من صنع أجهزة المخابرات العالمية لتبرير خنق (الإسلام السياسي) ومحاربة وجوده، وتجفيف منابعه كما حدث بعد أحداث 11 سبتمبر.
ومن المحاولات الجادة والمهمة في إعادة الروح للأمة، وإيجاد كيان إسلامي نظامي قادها المفكر السوداني ورئيس برلمانها حسن الترابي (1932م- 2016م)، الذي رأى أن الحل هو التحالف مع العسكر لإيجاد ثغرة يدخل منها المشروع الإسلامي نحو النور، وقد فعلها إلا أنه نتيجة معارضته لقضايا الفساد والحريات تم سجنه والتضييق عليه وعلى حزبه.
ثم جاء الربيع العربي (2011م – الآن) الذي تمثل في الثورات الشعبية التي خرج فيها الشباب العربي الثائر في ساحات وشوارع تونس، ومصر، والسودان، واليمن، وسوريا وليبيا، وقد كان هذا الربيع حلقة في سلسلة محاولات الانبعاث من جديد، والولادة القيصرية المضطر لها، ولم تكتمل بعد فصولها، لكنها في طريقها للاكتمال بربيع عربيٍ إسلاميٍ ثان.
لقد كان هذا الاستعراض السريع والموجز لحركة الفكر السياسي الإسلامي المتمثل في جهود بعض القيادات الإسلامية والحركات والتجمعات ليُعطي دلالة واضحة أن معين هذه الأمة ما نضِب يوماً، وأن الاجتهاد فيها كالنهر الجاري لا يتوقف، وأنها ما يئست يوماً من محاولات النهوض والعودة من جديد.
وإن هذه القراءة السريعة تعطي إشارات واضحة كيف يصبح حال الأمة حين يتولّى زمام قيادتها أهل السياسة المجردّين من الفكر، جنرالات الجيوش وأصحاب المصالح والأجندات الخارجية الذين يقومون بتغييب القامات المُفكرة، وأصحاب المشاريع الحضارية، وهامات العلم ومنارات المعرفة.
بين الرئيس مرسي والانقلابي السيسي
بالاستعراض السريع لحركة المؤثرين وأصحاب المشاريع الحضارية يجد أنهم من طبقة المثقفين والمفكرين وينسلوا من عائلات معروفة بتدينها والتزامها وثقافتها.
والمتابع اليوم يجد أن كثيراً من زعماء العالم الغربي من خريجي أفضل جامعات العالم، ومن مريدي مراكز الأبحاث ودعم اتخاذ القرار، وكذلك من المؤلفين والكُتّاب وحتى الفنانين والفلاسفة، وهؤلاء هم من يصبحون – مستقبلاً- قادةً لدولهم وشعوبهم.
أما في عالمنا العربي فالحال عكس ذلك تماماً، إذ من يصل السلطة ويحوزها هم العسكر، وأصحاب الشهادات المتدنية، ومن هو خرّيج المدرسة العسكرية الأمريكية أو البريطانية.
فالفكر في وادٍ مسجون ومُقيّد، والقيادة السياسية للدولة لمجنونٍ ومعتوه بلباس عسكري ونياشين وهمية.
ولنأخذ مثالًا الشهيد الصابر رئيس مصر المدني الشرعي الدكتور محمد مرسي (1951م – 2019م) الذي يحفظ القرآن كاملاً غيباً عن ظهر قلب، ويحمل شهادة الدكتوراة في هندسة المواد فهو مهندس ميكانيكي، ومحاضر في جامعات مصرية، ونائب في البرلمان المصري لسنوات عديدة، وعمل في وكالة ناسا الأمريكية للفضاء، "وله عشرات الأبحاث في معالجة أسطح المعادن، وقام بعمل تجارب واختراعات لنوع من المعادن يتحمل السخونة الشديدة الناتجة عن السرعة العالية للصواريخ العابرة للفضاء الكوني".
في المقابل تجد عبد الفتاح السيسي رجل مخبول، أهوج، ومعتوه، وأهطل تربّى في أحضان الجيش الأمريكي ودوراته الأمنية المُوجّهة، لا يستطيع أن يتلفظ بكلمتين مرتجلاً، قد أضاع مصر وأعادها للوراء مئات السنين.
الدكتور مرسي صاحب الفكر السليم قاد مصر في سنة واحدة إلى معالمٍ من نور، وتوجهات واضحة، وبمصالحة مع مصر وشعبها وطيبةُ قلبٍ دفع ثمنها حياته، وأوقفت مدّ الربيع العربي واستثماره.
بينما الأخطل السيسي صاحب المشاريع المستوردة، والأفكار المناوئة فقد قاد مصر إلى الهلاك والدمار ممّا قد لا تفيق منه دهراً.
نووي حماس
عرف العدو الصهيوني قيمة المفكرين في حركات المقاومة، ويعلم تأثيرهم في توجيه بوصلة الصراع ونظمه، لذلك كان أشد الحرص على التخلص من القامات المفكرة، والروائيين، والرسامين، والكُتّاب.
فقد اغتال العدو الروائي الفلسطيني غسان كنفاني (1936م – 1972م) في بيروت، واغتال رسام الكاريكاتور ناجي العلي (1937م – 1987م) في بيروت أيضاً، وغيرهم العشرات من أصحاب الأقلام والعقول الحرة.
واغتال العدو الدكتور المفكر إبراهيم المقادمة (1952م – 2003م) صاحب كتاب معالم في الطريق إلى تحرير فلسطين، وكأنه أراد أن يكون النسخة الفلسطينية من سيد قطب في كتابه (معالم في الطريق). فقد رسم المقادمة في كتابه هذا طريق التحرير، كما رسم سيد طريق الانعتاق من جاهلية القرن العشرين.
وقد أطلق العدو على الدكتور إبراهيم المقادمة لقب نووي حماس؛ لأنه فعلاً كان المُلهم المتحرك والمُحرّك للشباب الحمساوي في قطاع غزة، فهو رجل الدعوة والجهاد في آن واحد، الفقيه والأصولي، المجاهد الثائر الذي تحدّى بفكره وجهاده العدو الصهيوني وزبانية أوسلو.
الفكر الإسلامي الوسطي .. عدو أجهزة المخابرات العربية
وهنا أكتفي بنقل موقف ذكره الشيخ الراشد في رسالة (آلام صحراوية) لِنُعلّل أهمية هذا الفكر، ومدى عداوة أجهزة المخابرات له:
"وفي يوم قديم: حين كان "أبو صالح" مدير أمن أبو ظبي يحقق معي وأنا معصوب العين قلتُ له وبنوع من الجدية التي أعرفها من نفسي: أنتم أخطأتم في اعتقالي، لأني أربّي الدعاة على ضرورة الأداء الحضاري، وأعظهم بالتخطيط والبُعد عن التهور والأعمال الجزافية، وأدفعهم نحو بصيرة فقهية ومعرفية تجعلهم أقرب إلى الاعتدال والسلوك المتمدن العصري، فأطلقوا سراحي من أجل إكمال مهمتي في تربية الدعاة، وغيابي يساعد على ظهور الثأريات.
فضحك أبو صالح من أعماق قلبه ثم قال لي: أقسم بالله وتالله أنك إن تتكلم بكلام أسامة بن لادن وتتخذ مثل أسلوبه في العمل وتحريض الشباب على القتل والتفجير: فإني سوف أفك أسرك وأسندك كل الإسناد وتعيش معززاً مكرماً. يا شيخ: خطورتك أنك تعلم الشباب الطريقة الحضارية المعرفية.
فهذا هو منطق المخابرات: يريدون سبباً لضرب الدعاة، ولا تروق لهم عقلانية نعلّمها للشباب.
ضريبة القيادة الفكرية
ويذكر لنا التاريخ نماذج من القيادة الفكرية التي ناهضت القيادة السياسية في عصرها، وباحت بمواقف وآراء وفتاوى تعاكسها، ونطقت برأيها الحر الخارج عن عباءة الحاكم السياسي المستبد ضعيف البضاعة الفكرية والشرعية والثقافية.
فقد سجلت لنا كتب التاريخ موقف الإمام أحمد بن حنبل الذي دفع حياته ثمناً لمواقفه من فتنة خلق القرآن، حتى استحق بجدارة لقب (حامي السنة).
ونقل لنا الشهود من المعاصرين، وأرّخت الكتب مواقف شهيد الإسلام (سيد قطب) في الدفاع عن رأيه، وكلمته، حتى عُلّق بسببها على حبل المشنقة.
وما زالت ذاكرتنا تحتفظ برئيس مجلس الرئاسة في البوسنة والهرسك الرئيس الفيلسوف المسلم علي عزت بيغوبيتش (1925م – 2003م) مؤلف (الإعلان الإسلامي) الذي جرّه إلى السجن كما جرّ سيد قطب من قبل إلى حبل المشنقة، وصاحب رائعة (الإسلام بين الشرق والغرب)، والرئيس المجاهد الذي كانت له إسهامات فكرية عبر تأسيس الأحزاب الإسلامية، وتأليفه للكتب والمنشورات، والعمل الطلابي في كافة مراحل سنّي حياته، ومجابهة الصرب وأعوانهم.
معضلة هجرة المفكرين من التنظيمات الإسلامية
ثمة أزمة ظاهرة، وحاضرة في كل أجيال الدعوة الإسلامية المعاصرة وهي خروج المفكرين وهجرتهم من صفوف الحركة الإسلامية، وهذا له أثر واضح في انحسار التجديد الفكري، وتقدم القيادة الفكرية لتكون في الصفوف القيادية الأولى للحركة الإسلامية.
فلماذا تضيق الحركة بأبنائها فيصبح بعضهم أكبر منها تفكيراً وإدراكاً للعديد من القضايا؟، ولماذا لا تستطيع الحركة استيعابهم واحتواؤهم، ولماذا هذا التساهل في التفريط بهم لمجرد إبدائهم لآرائهم ووجهات نظرهم المختلفة مع توجهات المجموعة القيادية؟
إن هذا الخروج، وهذا التفريط بالمفكرين داخل الحركة الإسلامية يجعلها في مصاف متأخرة حتى لو تقدمت، ويؤخرها عن تحقيق أهدافها، وتفتقر إلى الواجهات الاجتماعية المفكرة وذات الصيت بين الجماهير، وتصبح عاجزة عن التوفيق بين مشكلات الواقع والتأصيل الفكري والشرعي لها.
ونذكر في هذا المقام الشيخ محمد الغزالي وخروجه عن الجماعة، والدكتور جاسم سلطان الذي رفض فكرة التنظيم داخل المجتمعات المسلمة واتجه نحو فكرة التيّار معارضاً فيها توجه جماعة الإخوان المسلمين التي كان مراقبها في دولة قطر.
والعديد من العلماء والمفكرين الذين خرجوا من طوق الحركات إلى سعة العمل والحركة والتأليف والتأثير دون قيود التنظيم وحساباته.
المفكر والمنفذ
تجرنا معضلة هجرة المفكرين من أروقة الحركات الإسلامية إلى جدلية المفكر والمنفّذ، حيث في ظل غياب وانشغال المفكرين داخل أروقتهم الفكرية ومراكز الأبحاث ومكتباتهم العامرة، يبرز المنفذين وأصحاب التدخل السريع في تنفيذ الأعمال والمهام المناطة بهم وبغيرهم، ويبرز كذلك وعاظ المساجد وخطباء الجُمع، ويصبحون واجهة الحركة الإسلامية أمام الناس والجماهير والأجيال الناشئة.
هؤلاء المنفذين هم الذين يُترك لهم المجال للصعود القيادي؛ نظراً لإنجازهم السريع للأعمال، والتزامهم السمع والطاعة، وعدم المشاكسة والتفكير خارج الصندوق.
يصعد المنفذ ويقود الصفوف دون أدنى مقومات الحصيلة المعرفية المطلوبة للقائد في عصرٍ تتشابك فيه المعرفة، وتزداد كل ثانية أضعافاً كثيرة، فيدخل في متاهات لا يعرف الخروج منها، ويسير في دروبٍ ضيقة لا توصل إلى الهدف، ويناحر الأقران، وينحرف عن الأصول لا تربطه بالفكرة سوى وسائلها.
في المقابل يبقى المفكر خارج الإطار القيادي؛ لأنه غير معروف للقاعدة، وليس خطيباً لجمعة أو واعظ وراوٍ للقصص، ولأن ليس مجاله دغدغة عواطف الجماهير، أو وعظهم بالمواعظ الدينية والسياسية والاجتماعية، فلا ترفعه القواعد، ولا تصدّره، ولا تطلبه القيادة الأعلى للصدارة.
معاهد تكوين المفكرين
تقع المسئولية اليوم على قادة الحركات الإسلامية في كل الأقطار والبلدان في صناعة مفكرين، ولا نقصد هنا مفكرين بالعموم بقدر ما نحتاج إلى مفكرين متخصصين في كل العلوم والمعارف المعاصرة.
لا يمكن أن نترك هذه الصناعة للأشخاص بشكل ذاتي دون أن يكون لها تخطيط استراتيجي بعيد المدى، يضع على عاتقه أن يكون هناك عشرات المفكرين المتخصصين خلال فترة من الزمن.
إنّه ليُعيب الحركة الإسلامية أن لا يكون لها مؤسسات خاصة وجهات معلومة تقوم على هذه المهمة نحو إنشاء معاهد لتكوين المفكرين الذين يحملون الفكرة الإسلامية الخالصة ويبلغون بها الآفاق، ويدافعون عن الحركة وسياساتها ويصنعون رؤيتها وتوجهاتها، ويجدون الحلول لكل المعضلات التي تواجهها.
ختاماً، حاولنا في هذا المقال أن نوضح أهمية القيادة الفكرية بشكل مقتضب وسريع، وأنه يجب ابتداءً أن يتم اختيار القيادة السياسية من أصحاب الفكر الممارسين، وأنه لا يمكن أن تعمل القيادة السياسية بشكل منفصل ومستقل عن القيادة الفكرية، بل يجب أن ترتقي القيادة السياسية في فكرها وأنماط تفكيرها.
* الرئيس المؤسس لعبير الوعي الدولية ..
تعليقات الفيسبوك