ثلاثة موازين شرعية وسياسية داعمة لقرار حركة حماس في استعادة علاقاتها الاستراتيجية
بقلم: أحمد محمود خونا*
بعد عشـرية من تداعيات ما سُمي بالربيع العربي الذي أفرز تعقيدات كثيرة على المشهد الإقليمي كان من أهم نتائجه تشديد الخناق على دعم حركة المقاومة من بعض الدوائر الغربية وكذا تراجع القوى الداعمة لها، وتوسُّع دائرة التطبيع مع الكيان الصهيوني، وحدوث ثغرات كبيرة في منظومة الأمن القومي العربي، جاء قرر حركة المقاومة (حماس) لاستعادة علاقاتها السياسية والدبلوماسية مع بعض الدول التي لها تأثير مباشر أو غير مباشر على الساحة والقضية الفلسطينية مثل سوريا وإيران وروسيا.
وقد أثار قرار حماس مخاوف بعض محبيها وبعض معارضي أنظمة تلك الدول التي استعادة الحركة علاقاتها بها.
ولا شك أن هذا القرار يدخل في باب الاجتهاد السياسي الذي ينطلق من الفقه الذي يُعرف في تراثنا بالسياسة الشـرعية والذي قد يسع في مخرجاته الخلاف، وعليه لا ينبغي أن يخوض فيه الخائضون بعيدا عن هذا الوصف، وخاصة أولئك الذين تسـرعوا في وصف حركة حماس بالخيانة، أو بإضاعة البوصلة أو بالسذاجة.
وحرصا منا على المساهمة في هذا السجال الدائر حول هذا القرار، إرتأينا أن نضع بين يدي هذه النقاشات ثلاثة موازين شرعية وسياسية كلية كفيلة -إن شاء الله تعالى- عند تأمُّلها بإحداث قناعة بصواب قرار حماس من حيث المبدأ دون أن نعرف الخلفيات المكتومة التي بنتْ عليها حماس قرارها، والتي قد لا يصوغ لحماس في هذه الظروف أن تكشفها أو تنشرها نظرا لطبيعة الصـراع وضرورة كتم مثل هذه الفذلكات والمركبات الاستراتيجية.
ونزعم أن هذه الموازين الثلاثة تقضي بتزكية قرار حماس، وخاصة إذا أضفنا إليها مستوى ثقة الأمة في خبرة هذه الحركة وتمرُّسِها في الميدان السياسي والعسكري، الذي تحمّلتْ من خلالهما أعباء جهاد طويل قدمت فيه تضحيات جسام دون أن تفرط أو تساوم، فضلا إسنادها الدائم و مرافقتها من بعض الأصدقاء والاحباب في إطار التشاور والبحث.
الميزان الأول
(إزراءُ العامل على العاطل)
روى الخطيب البغدادي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعا، ورواه غيره عن علي رضي الله عنه موقوفا قال:( كُلُّ قَوْمٍ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَصْلَحَةٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يُزْرُونَ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَيُعْرَفُ الْحَقُّ بِالْمُقَايَسَةِ عِنْدَ ذَوِي الْأَلْبَابِ).
وهذا الأثر يذكرنا بأن أهل مكة أدرى بشعابها، ومعناه أن كل قوم هُم أدق تقديرا لأمورهم وأعرف بمصالحهم من غيرهم، وهم الذين (يزرون على من سواهم) أي: يعيبون ويعتبون مخالفيهم ويلزمون الحجة، وخاصة في القضايا السياسية المعقدة المرتبطة بالمعرفة الدقيقة للواقع، _ والتي لا يدركها إلا السياسي الممارس _ المتفاعلة مع متغيرات وتطورات المشهد وتحديات المكان وفرص جغرافيا السياسة وافرازاتها التي تخفى يقينا على الـمـُــنـظِّر السياسي الذي ينظر إلى المشهد من بعيد، فضلا عن العاطل والـمُتَفَـيْهـقِ.
ونعتقد أن موضوع علاقات حماس بالنظام السوري أو بغيره من الأنظمة تحوطه ملابسات وأبعاد متنوعة تدركها -أكثر من غيرها- حركةُ حماس المتحركة في الميدان والتي تمتلك معلومات كثيرة عن العدو الصهيوني المتحالف بدوره مع دوائر كثيرة.
فالموضوع ليس موضوعا شرعيا مجردا، ولا يستطيع الفقيه مهما أوتي من علم أن يقول فيه القول الفصل بسهولة، بل هو موضوع سياسي وعسكري بامتياز، وقد أخذت الحركة قرارها فيه بعد تقليب وجهات النظر في مؤسساتها الشورية وفق ما تمليه قواعد وأصول العمل المتبعة عندها، ولم يأت قرارها متسرعا ولا مرتجلا، بل مرّ بمراحل التداول، لمدة أشهر ، وشارك فيه كوادر هذه الحركة من شرعيين وسياسيين وعسكريين ومن داخل فلسطين ومن خارجها.
وهذا الميزان الشـرعي الذي ننبه عليه هنا، يُوجب على من هُم خارج الحركة أن يحسنوا الظن بهذا القرار الذي لا يمكن لحماس أن تكشف عن كل حيثياتها بسبب رصد العدو، وعليهم أن يلتزموا قيم الاختلاف وأن يبتعدوا عن أسلوب الطعن والتشهير بهذه الحركة التي أثبتت الأيام والمواقف حسن اختياراتها.
كما لا ينبغي للحركة أن تترك صواب ما تراه لمجرد الجري مع عواطف الناس وكراهيتهم لبعض الأنظمة التي من الحكمة ألا تتدخل حماس في شأنها الداخلي.
ومن إعمالات هذا الميزان موقف علمائنا قديما حين يحتدم الخلاف في القضايا العلمية الدقيقة، حيث كانوا يتشوفون إلى سماع رأي أهل الثغور لرفع الخلاف، فيقولون: ((إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور)) أو ((الأمر ما عليه أهل الثغور))، وقد وردت هذه العبارات عن أئمة كثيرين من أمثال الامام عبد الله بن المبارك، والامام سفيان بن عيينة والامام أحمد بن حنبل رحمهم الله جميعا.
ونقل القرطبي رحمه الله في تفسيره أن سفيان بن عيينة قال لابن المبارك (إذا رأيت الناس قد اختلفوا فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور فإن الله تعالى يقول" لنهدينهم") يشير إلى قوله تعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).
وقال ابن تيمية رحمه الله: (وَلِهَذَا كَانَ الْجِهَادُ مُوجِبًا لِلْهِدَايَةِ الَّتِي هِيَ مُحِيطَةٌ بِأَبْوَابِ الْعِلْمِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)، فَجَعَلَ لِمَنْ جَاهَدَ فِيهِ هِدَايَةَ جَمِيعِ سُبُلِهِ تَعَالَى؛ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامَانِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا: إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي شَيْءٍ فَانْظُرُوا مَاذَا عَلَيْهِ أَهْلُ الثَّغْرُ فَإِنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ)
الميزان الثاني
(الفقه الجهادي فقه مصلحي عامر بالاستثناء)
فقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي دجانة لما اختال في مشيته في الحرب بين الصفوف:(إنها مشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموضع) وفي رواية (الموطن).
والمقصود أن للجهاد وللمجاهدين ضرورات خاصة بهم تجيز في موازين الشـريعة مواقف وتصـرفات لا تجيزها لغيرهم، مثل إباحة بعض أنواع الربا للمجاهدين كما نص على ذلك الفقه المالكي في قول الإمام خليل ابن إسحاق في مختصره (ومضت المبادلة بينهم) وهذه العبارة تعني جواز أن يقع الربا بين المجاهدين، وفي هذا يقول الناظم الشنقيطي صاحب الكفاف ما نصه: (وجوّزْ أنْ يُرابي الغازي أخاه***في الغزْو، وامنعْ أن يُرابي سِواه)
وقد نص الفقهاءُ أيضا أن الزكاة لا تعطى لكافرٍ إلا إذا كان من المؤلفة قلوبهم أو كان جاسوسا لصالح المسلمين، وقال بعضهم مُعدّدا شرائط مَن تُصرف الزكاة له: (وكونُه مسلمًا أيضا يُشترطْ ** في غير جاسوس مُؤلّفًا فقطْ).
كما نصُّوا على حرمة تعريض النفس للقتل إلا في الجهاد حيث جوزوا للمجاهد الإيغال في ساحة القتال حتى وأن عرّض نفسه للقتل والاستشهاد.
وعليها فإنه بإعْمال هذا الميزان الشرعي يجوز لحركة حماس الاستعانة ببعض الأنظمة والأحزاب ممن كثر حولهم الاعتراض والمعارضة وغير ذلك ... بل قد يتسع الامر مستقبلا حتى للتعاون مع المخالفين في الدين من المشركين وغيرهم وليس فقط المبتدعة، شريطة أن يكون هذا التعاون في القضايا التي تدخل في مصلحة الجهاد ضد هذا العدو الاستثنائي الذي لا يتوقف عن تحركاته لتوسيع دائرة مخاطره وتهديداته، في حين الواقع يؤكد أن حماس، قد استبانت لها من هذا القرار مصالح كثيرة نحسب أن من أهمها تخفيف العزلة عنها بدخولها في علاقات توفر لها الدعم، ومنها التمركز في جغرافيات جديدة، تسهل لها التحرك والاجتماع لرعاية مصالحها وتحقيق أمنها الجهادي، ولا شك أن غيرها سيستفيد أيضا، فالمصالح مُتبادلة، ولكن حماس ستكون المستفيد الأكبر لا سيما في هذه المرحلة الحاسمة.
الميزان الثالث
(عند الملاحم ترتفع الفتن)
بمثل هذا العنوان بوّب الإمام أبوداود في سننه على الحديث الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لن يجمع الله على هذه الأمة سيفين: سيفاً منها، وسيفاً من عدوها).
فمن رحمة الله تعالى بهذه الأمة أن الخصومات والفتن الداخلية ترتفع وتقل حيت تشتد الأزمات ويتسلط الأعداء، أي لن يجمع الله على هذه الأمة سيفين: سيفاً منها) يعني: من المسلمين (وسيفاً من عدوها.
وحركة حماس لم تكشف لنا عن كل حيثيات قرارها بسبب رصد العدو لها، ولكنها وضعت أولوية تقضي بتركيز وتكامل أداء صراعها السياسي والعسكري دون فتح جبهات وصراعات بينية قد تكون مدمرة للقضية كلها.
ومنهج حركة حماس منهج معتدل لا يسرف أبدا في إخراج طائفة الشيعة من الملة أو من أهل القبلة، وإن اختلفوا مع الشيعة في بعض المسائل الجزئية التاريخية والفقهية والسياسية.
والصواب أن الشيعة جزء من هذه الأمة، وقضيتهم ينظر إليه من زاوية (سياسية وحركية) تجعل مجالات التنسيق واسعة، في حين يرى بعض من يعارض حماس أن هذا الملف له طابع (عقدي ومبدئي) ومجالات التنسيق فيه ضيقة.
وعليه يجوز لحماس بناء على هذا الميزان الشرعي أن تقوي استراتيجية التنسيق بينها وبين أبناء الأمة على أساس (قيم التقريب) ضمن إطار (معاني المرحمة)، وعلى أساس (قيم المقاومة) ضمن إطار (معاني الملحمة)، المشار إليهما في قوله تعالى:(محمد رسول اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ)، فدائرة المقاومة أشار إليها قوله تعالى "أشداء على الكفار"، ودائرة التقريب أشار إليها قوله تعالى "رحماء بينهم".
نائب رئيس مجلس الشورى الوطني
حركة البناء الوطني -الجزائر-
تعليقات الفيسبوك