الوعي القيادي

أمي

بقلم: الأستاذ إسماعيل عبد السلام هنية "أبو العبد" 

رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية - حماس

من كل عام تختار البشرية أول أيام الربيع لتجعله يوماً للأم التي مثلت في حياة كل إنسان الربيع الدائم، ربيع العطاء والخصب والحب الذي لا يعرف الحدود.

من كل عام تختار البشرية أول أيام الربيع لتجعله يوماً للأم التي مثلت في حياة كل إنسان الربيع الدائم، ربيع العطاء والخصب والحب الذي لا يعرف الحدود.

فهي أول عهدنا بالدنيا، وأول ما تمسكه ذاكرتنا ..

وإن كان قد تعارف الناس أن هذا يوم للأم فأمي لها في وجداني ثلاثمائة وخمس وستون يومًا أو يزيد؛ لأنها تعني لي الكرامة .. كيف لا؟ ويوم الأم يصادف يوم الكرامة لانتصار الثورة الفلسطينية والجيش العربي الأردني على جيش المحتلين عام 1968، وأن يختار الإنسان يوم الأم ليحتفل في اليوم التالي بيوم الطفل، فذلك تأكيد على العلاقة الوطيدة التي لا تنفصم بين الأم والطفل، في تبادلية لمعنى الحياة النقية.

وإذا كان لكل واحدٍ منا علاقته الخاصة بأمه، ففي هذا اليوم سأحدثكم عن تلك المرأة الجميلة في حياتي، وهو أن أمي إلى جانب أبي، قد زرعت في داخلي منذ نعومة أظافري التدين والبساطة والحنان والتواضع والعيش في المخيم، فالمخيم عنوان الصمود والعودة، فحياتها لم تكن عادية، بل رأيتُ فيها الكدّ والتعب وهي تخرج يوميًا في الصباح الباكر إلى وظيفتها المتواضعة في مستشفى الشفاء بغزة، تُخفّف فيه آلام المرضى وتهيئ لهم بيئة نظيفة، فتغسل شراشف الأسّرة وبطاطين المرضى مع نسوة طيبات كنت أرى في كل واحدة منهن مشروع حياة كريمة، كأمهات فلسطين التي كانت تزرع وتحصد الارض وتخبز على فرن الطابون.

أمي كأي أم فلسطينية .. تزرع في وجدان أبنائها حب الوطن .. فكانت تحدثنا دائماً عن حواديت أجدادي في بلدتنا قبل الهجرة .. عن بساطة الحياة وصفاء العيش قبل أن يشوهها الاحتلال، فكنت أتشرب حب بلادي، وتمسكي بهويتي الفلسطينية، وإيماني العميق بالله، وتعلمت منها كيف يكون الصبر والجلد على مشاق الحياة وصعوبات العيش في ظل احتلال بغيض وحياة فقيرة .

في قسمات وجهها وبهاء طلتها وحلاوة ضحكتها وجمال قعداتها.. كنا نرى فلسطين بتاريخها الممتد .. فكانت تزرع فينا يقيناً أننا لن نفارق الوطن ولن يفارقنا الوطن وسنعود إلى بيت أبي وامي وسيدي وستي، حيث هو هناك في مرمى البصر .. من شمال غزة.

فلا صوت يعلو فوق صوت الحق ولا ظل إلا ظل شجرة التوت والجميز وكروم العنب في بلدتنا الاصلية.

والدتي الحجة لطيفة أم خالد تلك المرأة العسقلانية، ووالدي عسقلاني الجذور، يافاوي الهجرة ... وأدركت بذلك مبكراً الحقيقة أن فلسطين عروستها يافا و خير رباطها عسقلان .. فجسور التاريخ والجغرافيا وامتداد الساحل بينهما لا تغيره الأباطيل وأراجيف التطبيع وهرولة المنهزمين، وأن الكيان الصهيوني حتماً إلى زوال.

رزق الله أمي ولدان وسبعة من البنات .. فعشنا معاً صعوبة الحياة آنذاك .. كما عاشت كل أسر شعبنا العظيم .. فما أكثر الصعوبات التي واكبتها امي، فصبرت وتحملت حتى عجز الصبر عن صبرها ولكن أحسب أن الله عوضها بصبرها بالأبناء مختار ووجيه في قومه اخي الكبير "خالد" ابو العبد رحمه الله تعالى .. والعبد الفقير خادم لدينه وقضيته وشعبه .. وبنات أصبحن حجات وأركان في بيوتهن وعائلاتهن وما زلن يحملن في قسمات وجوههن صورة الوالدة وحنانها وحبها حفظهن الله جميعا وحفظ الله اختي من والدي رحمه الله .

كأي إنسان في طفولته.. أتذكر في هذا اليوم، أكلات أمي التي كانت تخصنا بها في يوم إجازتها الأسبوعية من عملها .. أو في بعض الأيام، إذ كانت أمي تسهر ليلاً تجهز لنا طبخة الدار وأكلة اليوم التالي .. فطعامها شفاء وبركة وأصالة.

لأمي قصة حدثت معنا قبل وفاتها .. رحمها الله، فذاك اليوم الذي لا ينسى من وجداني، منذ رحيلها القاسي، قبل 25 عاما، حيث كنت وإياها في غرفتنا الصغيرة المغطاة بالأسبست في مخيم الشاطئ للاجئين نشاهد أخبار مجزرة قانا التي ارتكبها الصهاينة ضد اشقائنا اللبنانيين، والمشاهد المروعة التي خلفتها الوحشية الصهيونية وأمي تشاهد والحزن يملأ قلبها وفي عيونها الدمع وتردد حسبنا الله ونعم الوكيل، وتكررها حتى مالت على فراشها مغشي عليها، وكأنها في رحيلها تقول لي أن الدم العربي واحد والعدو واحد .. وأن لبنان اقتسمت معنا ملاحم البطولة والمقاومة والثورة والتضحيات من أجل قدس الأقداس ستقتسم معنا الانتصار في فلسطين الوطن والهوية.

رحم الله والدتي، وأسأل الله أن يجزيها عني خير الجزاء .. ورحم كل اللواتي توفاهن الله من أمهاتنا، وأمد الله بعمر الأحياء منهن لا سيما أمهات وزوجات الشهداء والأسرى والجرحى والمناضلين والمقاومين والمجاهدين.

كما ندعو لأبي الذي لا توفيه الكلمات حقه ولا تسع السطور تدينه وشهامته وكرمه ورجولته.

رحم الله إخواننا وأعمامنا وعماتنا وأخوالنا وخالاتنا وجميع أمواتنا وشهدائنا.

تغيب الأم وترحل عن هذه الحياة .. لكن لله لطيف بعباده فعوضني المولى بعد رحيل أمي بزوجة صالحة ودود ولود جبل المحامل وشريكة المشوار وبالانتصار ان شاء الله.

فأضحت أم عبد السلام الغالية عمود الخيمة ومظلة الجميع.

كل عام وأمهات فلسطين بخير

كل عام والام الاسلامية والعربية بخير

 

 

تعليقات الفيسبوك

كن معنا في نشر الوعي

"وتتعمّد منهجيتنا التربوية تربية صفوة كبيرة الحجم من الدعاة تتكون منها قاعدة صلبة للعمل الدعوي وتحمل أثقاله، وتصبر على طول الطريق، وتتكون منها الطبقة القيادية، ثم نحاول صناعة طبقة واسعة من الموالين للدعوة". 11

كن معنا