إتحاف الخلان بكيفية استثمار رمضان
بقلم: محمد بن محمد الأسطل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد وصل رمضان، وحلَّت علينا نعمة الحنَّان المنَّان، وآن للنفوس البعيدة أن تعود، وللقلوب المغتربة عن ربها أن تؤوب، آن للنفس أن تُزكى وتطهَّر، بعد أن تلاعبت بها الأهواء وإغراءات النفس ووساوس شياطين الجن والإنس.
فقد خاب وخسر وهلك من لم يطهر نفسه ولم يزكِّها، وأحلف بالله على هذا، بل إن الله أقسم أحد عشر قسمًا متتاليًا على ذلك، فقال جل شأنه: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 1 - 10].
ووالله لن تصل إلى دنياك إلا بالله، فكيف تريد أن تصل إلى الله بغير الله! كما قال العز بن عبد السلام، اقرأ في ذلك قول الله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21].
فإن لم تزك نفسك وتطهر قلبك.. فكيف بك وقد جعلت نفسك عرضة لمقت الله وسخطه، إن الله تعالى غضب على أهل الأرض جميعًا في وقتٍ من الأوقات لما تخلوا عن الدين الحنيف، كما جاء في صحيح مسلم أن النبي قال: "وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ..".
واليوم اشتدت قسوة القلب، حتى باتت شكوى ذائعة، فَقَلَّ أن تجالس رجلًا من العامة أو الخاصة ولو كان عالمًا أو داعيًا أو مجاهدًا إلا ويشكو لك قلبه وفقده لنفسه، فحتى متى؟!.
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16]!.
أما أثَّرَ فينا العتاب الإلهي الشديد وهو يقول سبحانه: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1]!.
وبعد أن جاء رمضان فآن لك أن تستيقظ، وتتعب على تزكية نفسك، فإن رمضان أحسن فرصة، وهو الذي يعطيك شحنةً إيمانية تكفيك عامًا كاملًا لو قمت بحقه كما أراد الله.
جاء عند مسلم في صحيحه من حديث أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر".
ولهذا قال ابن القيم في كتابه "زاد المعاد": من صح له يوم جمعته وسلم.. سلمت له سائر جمعته، ومن صح له رمضان وسلم.. سلمت له سائر سنته، ومن صحت له حجته وسلمت له.. صح له سائر عمره، فيوم الجمعة ميزان الأسبوع، ورمضان ميزان العام، والحج ميزان العمر، وبالله التوفيق.
وذلك أنه إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغُلِّقت أبواب النار، وهناك صلة رحم بين أبواب الجنة والحسنات التي تفضي إليها، فإذا فتحت أبوابُ الجنة.. فتحت أبوابُ الحسنات بحيث يصبح فعل الطاعات سهلًا، وهناك صلة رحم بين أبواب النار والسيئات التي تفضي إليها، فإذا غلقت أبواب النار.. غُلِّقت أبوابُ السيئات، بحيث يصبح ترك السيئات سهلًا، وزادك الله من فضله لما كفاك عناء مجاهدة الشياطين بتصفيدها من أجلك.
وهذه التغيرات الثلاثة في الكون تستفزك لأن تُخَفِّفَ من السيئات إلى آخر حد، وتبالغ في الاستكثار من الحسنات إلى آخر حد، وبهذا يكون رمضان فرصةً للصفاء والتركيز والانطلاق واليقظة من الغفلة، والناس يختلفون في اليقظة في رمضان وغيره:
فمن الناس من يستيقظ من غفلته، لكنه ينام سريعًا.
ومنهم من يستيقظ، لكنه يحتاج لمنبهات تُثَبِّتُ يقظته؛ كحال من يحتاج للقهوة أو الشاي لضمان اليقظة، وهؤلاء يحتاجون لمثبتاتٍ ومعيناتٍ؛ كالأخ الصالح والبيئة المحافظة والمواسم الفاضلة؛ كرمضان والأشهر الحرم.
ومنهم من يستيقظ، ثم ينطلق يسعى فورًا، وربما أخذ يركض في بعض المحطات، ويبقى على هذه الحال لا ينحط عنها، ولا أجد توصيفًا لحال هؤلاء أروع مما جادت به قريحة ابن الجوزي إذ خطَّ في كتابه "صيد الخاطر" قائلًا: ومن الصفوة أقوامٌ مذ تيقظوا ما ناموا، ومذ سلكوا ما وقفوا، فَهَمُّهُم صعودٌ وترقٍّ، كلما عبروا مقامًا إلى مقام رأوا نقص ما كانوا فيه فاستغفروا!.
واعلم أن المقصد الأعلى في رمضان هو تقوى الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
والتقوى محلها القلب، ومقصد رمضان طهارة العقل من نجاسة الشبهات، ونجاسة القلب من نجاسة الشهوات، فرمضان لا يسكن في بيت نجسٍ، شأن جواهر الذهب التي لا توضع إلا في أوعيةٍ كريمة، فإذا جاء رمضان ولم تسع في إصلاح قلبك وتنظيفه وتطهيره.. جاوزك إلى من يحسن استقباله ويلتقط رسائله، كما قال بكر بن عبد الله: حرامٌ على قلب أن يدخله النور وفيه شيءٌ مما يكرهه الله.
وعندها تكون الحسرة وأي حسرة!، جاء عند الترمذي في سننه أن النبي r قال: "وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ" صححه الألباني.
إذا وعيت هذا فانطلق في التعبد والعمل بكل إقبالٍ ونشاط، فالعمل هو الحصن الذي تعتصم به من الهم والغم، ومتى قصر العبد في العمل ابتلاه الله بالهموم.
ولا أحدد لك عملًا بعينه؛ بل اقرأ القرآن وعدِّد من الختمات واحفظ بعض السور وتهجد، وامكث في المسجد حتى شروق الشمس، وأدرك تكبيرة الإحرام، وتصدق وصل رحمك وصل من قطعك، وأعط من حرمك، واعف عمن ظلمك، وأكثر من ذكر الله، ورابط وجاهد، واقرأ في كتب التفسير، وصل التراويح مع الإمام حتى الوتر، وفطِّر صائمًا، وتفكر في خلق السماوات والأرض، وانو الاعتكاف، وذل نفسك بين يدي ربك، وتب إليه من كل ذنب واستغفره من كل زلل، وأدخل السرور على غيرك، ولا توجع قلب أحد.
وتذكر دائمًا أن قضية التعبد قضية توفيق وحرمان لا معرفة وبيان، فقد تعلم العمل ولا تعمل به، وقد تعرف النهي ثم تقع فيه.
ولهذا قال أبو طالب المكي: يقال من علامات التوفيق ثلاث: دخول أعمال البرّ عليك من غير قصد لها، وصرف المعاصي عنك مع الطلب لها، وفتح باب اللجأ والافتقار إلى اللّه في الشدة والرخاء.
ويقال من علامات الخذلان ثلاث: تعسر الخيرات عليك مع الطلب لها، وتيسر المعاصي لك مع الرهب منها، وغلق باب اللجأ والافتقار إلى الله، في كل حال فنسأل اللّه تعالى بفضله حسن التوفيق والاختيار ونعوذ به من سوء القضاء والأقدار.
وأخيرًا: إذا أردت الفوز برمضان وفضائله.. فاحذر من البطنة عند الإفطار؛ فإنها مكسلة عن التعبد، ملهية عن التدبر، ومثقلة عن التراويح والقيام، وكذلك السهر الطويل، الذي يضيع به آخر الليل وصدر النهار، وهما أحسن ما في اليوم والليلة، واترك النت أو خفف منه؛ فإنه مشغلٌ لك، مشتتٌ لبالك، والله يتولاك، وهو الموفق لما يحب ويرضى.
والحمد لله رب العالمين، وصلِّ اللهم وسلِّم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
تعليقات الفيسبوك