الوعي الإستراتيجي

خواطر جيوبوليتيكية، الجيوبوليتيك .. طريقنا نحو الأستاذية

 عبد الله يوسف*

 

كنتُ صغيراً حينما كنتُ أشعرُ أنّا كباراً! يوم أن قرأت حواراً دار بين اثنين من قادة العمل الإسلامي العالمي آنذاك، حيث قال الأول: "كان العالم ومازال يحكمه البيت الأبيض والكرملين، واليوم يطرأ العمل العالمي كقسيم مكافئ.

فقال له الثاني: قد استعجلت وبالغتَ أخي!

فقال: فالوكالة اليهودية ومجلس الكنائس العالمي يتقاسمان التأثير، ونحن القوة الثالثة المقابلة إذن.

قال: نعم، الآن، بل وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل إن لم ننزل أنفسنا هذه المنزلة وإن لم نفهم لحركتنا هذا الدور". انتهى

وكنتُ صغيراً – كذلك – حين طرق مسامعي لأول مرة مفهوم "أستاذية العالم"، هذا الحلم الكبير الذي راودنا منذ أن صارت الخلافة في خبر كان ..!

وهنا السؤال الكبير: هل أنزلت الحركة الإسلامية نفسها هذه المنزلة الكبيرة؟ وهل فهمت هذا الدور المناط بها؟ وهل عملت فعلاً لتكون القوة الثالثة المقابلة؟ .. في هذا المقال ثمة خواطر تحاول أن تنظر في مستقبل الجيوبوليتيكية المسلمة، وتحاول –كذلك- أن تستمر في حلمها نحو "أستاذية العالم".  

***

كيف نظر الغرب للعالم جيبوليتيكاً؟

قراءة سريعة فيما كتب علماء الفكر الاستراتيجي في الغرب والشرق (أوروبا وأمريكا وروسيا) يدرك أنهم نظروا إلى العالم – كل العالم – نظرة جائع إلى وعاء طعام، لا تحدُّه أخلاق، ولا توقف شراهته قيم، ولا يشبع حتى لو ملأ بطنه، وسدّ جوعه .. وعمدوا إلى دراسة كوكب الأرض على أنه فريسة في غابةٍ كبيرة: الأقوى من يسيطر عليها، ويقضمها قضماً، ولا يُبقي لأحدٍ منها ولو قصعة لوجبةٍ سريعة! ..

 فصاغوا نظرياتهم الفكرية على أساس التوسع والتمدد حتى لو كان ذلك على حساب الدول الأخرى، والشعوب المقهورة، والأجناس الفقيرة، فتحولت هذه النظريات لاحقاً إلى مؤلفات فكرية، ومناهج دراسية تزرع في أذهان أجيالهم أفكار الهيمنة والتوسع و"ألمانيا فوق الجميع" و"مستعمراتنا لا تغيب عنها الشمس" .. وخططٍ عسكرية استراتيجية باتت واقعاً تحقق تكتيكياً في الحروب العالمية التي حدثت لاحقاً. 

أسواقاً جديدة

وممّا فتح شهية الغرب نحو استراتيجية التوسع والتمدد مقابل استراتيجية الانكماش: الرغبة الجامحة، والصراع المحموم في أن تصبح دولهم امبراطوريات عظمى تحكم وتسيطر على العالم، نعم .. هذا كان هدف الجميع من دول الغرب الكبرى: كيف نحقق السيطرة على الجزيرة العالمية التي لو تم لنا ذلك تمت السيطرة على العالم؟..

فاجتاحت دول المشرق والمغرب العربي، واحتلتها، وجعلتها مستعمراتٍ لها، تنشر فيها ثقافتها، وتحكمها بالحديد والنار، وتصادر كل رأيٍ حر، والأهم من ذلك: هو نهب خيراتها لحاجتها الملّحة للمواد الخام وفتح أسواق جديدة لها لتسويق منتجاتها بعد الثورة الصناعية التي شهدتها أوروبا.

لقد نظر الغرب إلينا أننا شعوباً استهلاكية، وأمماّ متخلفة، لا تدرك قيمة مقدراتها ومعادنها وما تحويه أراضينا من خيرات! 

 

النظرية الجيوبوليتيكية بين السماحة والعدوان

الجيوبوليتيك الأوربية تظهر لا أخلاقية العالم الغربي

انطلق الغرب في استراتيجيته للتوسع والسيطرة على العالم من منطلقات غير أخلاقية كانت وسائلها الحروب وسفك الدماء، ونهب الخيرات، وإلغاء الآخرين، وسلب مقدراتهم وإرادتهم .. وكان هذا واضحاً في الحربين العالميتين الأولى والثانية التي راح ضحيتها الملايين من الأمة الأوربية التي كانت نتاجاً للفكر التوسعي والهيمني المسيطر على العالم.

وجاء الغرب بقدّه وقديده نحو الشرق وارتكب مئات الأخطاء الحضارية بأسلحته المتفوقة على الشرق: قتلاً وتدميراً وتخريباً، وفغر فاهُ ليلتقم كل ما يمكن التقامه على أساس البقاء للأقوى، وعلى نظرية التوسع والتمدد التي لا تعرف للإنسان ووطنه وأرضه أي حقوق أو قيمة!

لقد أظهرت الجيوبوليتيكة الأوربية أنه لا أخلاق للعالم الغربي، ولا حتى لمفكرّيه الذين رسموا خارطة طريق نهب العالم لمطامع شخصية، ونظرياتٍ فاسدة ترى العالم كعكة صغيرة لشخصٍ واحد!

لقد نظرت الجيوبوليتيك الغربية على الدول الأخرى كأسواق يجب ملؤها وخيرات يجب نهبها، وأخلاق يجب هدمها، فخرجت علينا أمريكاً بعولمتها التي أرادت منها أمركة العالم والمسلم منه بالخصوص، فجعلت الشباب لا يرتدون إلا الجينز الأمريكي، ولا يأكلون إلا الوجبات السريعة الهامبورغر والكنتاكي، ويتحدثون نصف جملةٍ بالعربية والنصف بالآخر بالإنجليزية، ولا يسمعون إلا أغانيهم، ولهم في هوليود ونتفليكس صولاتٍ وجولات!..

النظرية الجيوبوليتيكية السَمِحة

في مقابل الطمع الغربي اللامحدود، واستخدام القوة العسكرية المفرطة، ومصادرة حقوق الناس، وتشغيلهم بأدنى الأجور، ومعاملتهم كالعبيد .. ماذا عنا نحن المسلمون حين توسعت خلافتنا الراشدة ومن بعدها دولنا المسلمة؟

يذكر الغرب المسيحي يوم أن فتح عمر الفاروق بيت المقدس، ولا يكاد ينسى بنود العُهدة العمرية التي كانت ولا زالت من أولى الوثائق السياسية التي راعت حقوق الإنسان في أرضه، ومعتقداته، وأماكن عبادته ..

ويذكر أهل دمشق حين صالحهم عمرو بن العاص دون إراقة قطرة دماءٍ واحدة! ويذكر التاريخ كيف أنصف الفاروق عمر يهودياً على مسلمٍ كانا قد اختصما إليه!

فالإسلام رسالة سلامٍ خالدة، يحمل الخير للناس، خير الدنيا والآخرة، ولقد ساوى في المواطنة بين المسلمين وأهل الكتاب في الدولة الإسلامية، ولم يفرض قتالًا على مدينة دفعت الجزية مقابل حمايتها وتأمينها، وتوفير معاشها.

وما جاء الإسلام إلا كما قال ربعي بن عامر حين دخل على رستم، وسأله: "ما الذي جاء بكم؟ فأجابه ربعي: جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".

أضف إلى ذلك أن علاقة المسلمين بغير المسلمين هي علاقة سلمٍ وهي الأصل والأساس.

الجيبوليتيك طريق العالم الإسلامي إلى الأستاذية

ماذا عنّا اليوم؟ ماذا عن الوضع الجيوبوليتيكي في العالم الإسلامي؟ هل تسمح الجغرافيا السياسية والجيوستراتيجية للعالم الإسلامي بالاعتماد على نفسه والاكتفاء ذاتياً من موارده؟ ..

لا شك أن القيادة المسلمة للعالم الإسلامي تدرك أهمية الجيبولتيك في الحفاظ على مواردها، وفي التخطيط لسياساتها الخارجية، وحتى لاعتماد أسلوب القتال فيها سواء كان دفاعاً أم هجوماً أم هجيناً!

ولعل الدارس لطبوغرافية فلسطين يدرك تمامًا ما نتحدث عنه في هذا المقام، الأمر الذي جعل العدو الصهيوني يجري الكثير من التعديلات على خارطة فلسطين التاريخية قبيل احتلاله لها وبعد ذلك ليهيئ كيانه مستقبلاً لعملية الدفاع والهجوم بشكل ميسّر؛ حتى أنه راعى في هذه التعديلات أن يحتفظ ويضم جبالاً، وبحاراً، وأنهاراً، وآباراً ارتوازية احتياطية!

فإذا أردنا أن نعيد أستاذيتنا للعالم، وأن نكون القوة الثالثة المقابلة للبيت الأبيض الأمريكي والكرملين الروسي فإنه يتوجب علينا تكاتفاً عقائدياً، وترابطاً جيوبوليتكياً يضع عالمنا الإسلامي في وضع دفاعيٍ متفوق على العدو، وجهوزية عالية لتنفيذ عمليات الهجوم.

ولنا –كذلك- في التحالفات الإقليمية والدولية مع الدول الأخرى سبيلاً على أساس تحسين الوضع السياسي والاقتصادي لعالمنا الإسلامي لنُشكّل مانعاً استراتيجياً في وجه كُلّ مارق يريد أن يخترق جهازنا الدفاعي، ويسرق خيرات بلادنا، أو يعتبرها مولاً كبيراً لتسويق منتجاته!

وقد حبا الله منطقة الخليج العربي بوجود 67% من احتياطي النفط العالمي في أرضه، فنستطيع من خلال توظيفه أن نستخدمه ورقة ضغط تجاه علاقتنا وسياستنا مع الغرب الظالم، ويكون بإمكاننا تسعير برميل النفط كما نريد نحن لا كما يريد الغرب، ونستطيع – كذلك – أن نؤثر على أي قرارٍ غربي يمكن أن يكون له تأثير سلبي على عالمنا الإسلامي، ومقدراته، وكرامة شعوبه.

ويلزمنا كذلك أن نسيطر على الجو بأي طريقةٍ كانت، فإن "من تُتاح له السيطرة على الجو، فإنه يملك مفتاح السيطرة على الأرض" ورغم عدم موافقتنا التامّة لهذه النظرية الغربية إلا أنّه يجب علينا امتلاك قوة جوية متفوقة أو مساوية لقوة العدو، ولقد سرّنا ما أنتجته الصناعات العسكرية التركية مؤخراً في مجال الطيران الحربي والمُسيّر، وهي بذلك تفتح باباً كاد أن يكون موصداً، والدخول منه كاد يكون مستحيلاً!.

وبشكلٍ عام يجب أن نحرص على القوة العسكرية بأنواعها: الجوية، والبحرية، والبرية، وحديثاً السايبرانية فالصراع عليهن محموماً، والميدان لا يحترم البطيء الهيّاب!

أخيراً، فلست متخصصاً في هذا المجال، لكنها مجرد خواطر راودتني منذ فترة، وجاء دورها في التدوين في ظل حجرنا القسري في أزمة كورونا، ولعلّ مقالي هذا هو إشارة واحدة إلى قدرة واحدة من مئات القدرات التي نستطيع تفعيلها لقلب الطاولة على من يُعادينا.

 

رئيس مؤسسة عبير الوعي – قطاع غزة

 

 

تعليقات الفيسبوك

كن معنا في نشر الوعي

"وتتعمّد منهجيتنا التربوية تربية صفوة كبيرة الحجم من الدعاة تتكون منها قاعدة صلبة للعمل الدعوي وتحمل أثقاله، وتصبر على طول الطريق، وتتكون منها الطبقة القيادية، ثم نحاول صناعة طبقة واسعة من الموالين للدعوة". 11

كن معنا