رواق الخيال الإيماني
محمد أحمد الراشد
في السلوك المعنوي النفسي الإنساني ظواهر لو وقفت عندها متأملاً لمنحتك أنواعاً من العِبَر، ولوجدتَ فيها بعض أسرار النفس، فكل الدعاء ينقص عن مقدار التمام، مثلاً، غير دعاء المضطر الذي حوصر فحاول فاستنفذ طاقته فبلغ قلبه الحنجرة، فإنه يتحول إلى ضراعة من الأعماق، ويكون صاحبه في أشد اليقين واكمل الإيمان تلك الساعة، ويجأر متجرداً. وكذا شجاعة الشجاع تبقى مثلومة، ويعتريها إبطاء مهما استدعاها وأبدى حَثّاً واستنفاراً، إلا في موطن الدفاع عن العرض والأهل والولد، فإنها تتضاعف، وقد تفجأ الرعديدَ بعض المناضلة ويكتشف الناس فيه بقية من حماسة ما كانوا يعلمونها. فكذلك"الفكر": لا يحركه البطر، ولا تهتز أعماق العقل عندما يسود السكون، وإنما تحصل غفوة فكرية، أو ترهلات تنظيرية، أو قناعات تقليدية، ولكن"التحدي"هو عامل التحريك الذي يجعل"التأمل"شغل العاقل، ويستفز مكنونه الوصفي والقياسي، ويُطلق طاقته التحليلية، ثم التركيبية التي هي عكسها، فيفتأ متقلباً بين الحدّين والركنين حتى يجد لرأيه القُراب الذي يلبسه ويُصاغ في معادلة وقاعدة وميزان، كما يجد السيف قُرابه المناسب.
وكما تختلف المواسم وتنـتقل من برد زمهرير إلى صيف ساخن، وكما يُنضج الحرُّ اللاهبُ الرُطَب: فإن سخونة هيمنة العولمة نقلت الفكر الإسلامي العالمي العام إلى مرحلة نضوج ووضوح وتـميُّز، بسبب التحدي الكبير واستيقاظ فطرة الدفاع عن النفس وعِرض المؤمنين، ثم لأن هجمة العولمة تركزت على العراق وجعلته موضع أول قدم أميركي في خُطة السيطرة المتطورة على العالم الإسلامي: رجعت بغداد عاصمة للجهاد ورمزاً للعزة ومَدْرَجاً للاستعلاء، وصارت بيئة القضية العراقية رواقاً للحوار الفقهي، ونادياً لاكتشاف منطق السياسة الشرعية، وأتاحت حرارة أشواق الأحرار بروز الاجتهاد المكافئ للحقائق الجديدة، والفكر الوسطي الذي يُزري على التطرفات الحادّة أو على التساهلات الحالمة.
وهذا هو الذي جعل استئناف إصدار" العين"كرّة أخرى في بغداد ضرورة، لتجيء على قَدَر، وتسير بموازاة الحاجة، فإنه يُراد لها أن تكون مجلة الفكر النخبوي الرفيع، والنقد القواعدي الملتزم، وفقه الدعوة الشمولي، وموطن عَرض التجارب التربوية الجماعية، وتأصيل المواقف وإسنادها إلى العرف الشرعي القديم، والتأكيد على الأنماط المنهجية واللمسات التخطيطية، والتوسل بضوابط الإدارة وتسهيلاتها، والاقتراب من مفجرات الإبداع وأساليب الابتكار، والانعطاف نحو الاستدراك على التقليد والارتجاع والرتابة والاستـئسار للماضي، ثم الارتكاب الجريء للاجتهاد الملائم للظرف.
والدعوة الإسلامية العراقية اليوم مؤهلة لأن تكون المحور الذي تنطلق منه وتدور حوله جميع هذه العملية الفكرية المستندة إلى ثوابت العقيدة وكتلة القواعد الشرعية وتراث الاجتهاد السالف، لأنها تنتصب وتتصدى للتعريف بالفن القيادي في أشد النقاط سخونة، وفي بيئة كثف تعقيدها حتى أصبح يشمل كل ما توزع في الساحات الأخرى من أشكال الصراع، والمهادنات والتحالفات، ولا بد للمتحاورين من دعاة الإسلام وهم يتبادلون الرأي من منبر، ونافذة إفصاح، ورواق إنضاج للخواطر، فاخترعنا" العين"لتكون هي الجامع والمفصل والرباط، ثم هي"الرَوْزَنة القادرية"التي أطلّ منها سلفنا رئيس دعاة الإسلام في بغداد الشيخ عبد القادر الكيلاني فرأى سفينـته في بحر الأقدار، تتلاطمها الأمواج، فناحر أقدار الشر بقدر الخير، فنجا ورسى، وأقدار السوء في العراق في الزمن الأميركي كثيرة، وقَدَر التوحيد الشرعي السياسي هو وحده الذي يضمن مستقبل العراق، وقد عزم الدعاة على أن يعلّموا الناسَ الخير، صَنعةَ أبيهم إبراهيم وفِعاله في "أُور" عاصمة العراق ذاك الوقت، فإنها ما زالت المنهج.
وإذا كان الفكر الاجتهادي الإبداعي هو ما نقترحه للدعاة: فإن من تمام النصيحة أن نغريهم بممارسة التأمل الحر، والتوسع في الافتراض، وتكثير مداخل كل قضية ومخارجها وما بين ذلك من بدائل ومتماكنات، وتقليل الشروط الجازمة، ورفع القيود عند الابتداء واللجوء إلى استنباطها كاستدراكٍ عند الانتهاء، وقبول كل مداخلة طارئة والاقتناع باحتمال صوابها، وتغيير أنساق القِيَم تقديماً وتأخيراً، وتبديل المقادير التي تحتويها كل قيمة ورؤية أثرها في النتيجة، والتردد بين الوصفين العقلاني والعاطفي، فإن في ثنايا هذه التغيرات والحركات يكمن الصواب، والطريق إليه يكمن في تجريب النظر إلى الشيء من زوايا عديدة، وتلك هي آلية الوصول إلى الإبداع، ويجمع كل ذلك "الخيال" الواسع، فإنه أساس الفكر إذا أراد التجدّد، والاجتهاد كله إنما تتضمنه عملية خيالية تتقدم على عملية الاستقرار على رأي يتطور إلى مبدأ، وهذه الفاعلية للخيال حقيقةٌ اكتشفها السلف واستقبلناها نـحن الخلف بنوع شك وتخوّف، ومشينا معها على استحياء، إذ يتطلب الأمرُ يقيناً وجزماً وجرأة. أما شاعر السلف فيبشّر به ...
لولا الخيالُ لكُـنّا اليومَ في عـــــَدَمٍ ولا انقضى غرضٌ فينا ولا وَطَرُ
كـــأنّ سلـطانها إن كنتَ تَـقِلُها الـشرع جـاء به، والعقلُ والنظرُ
من الحروف لها كافِ الصـفات فـما تَـنْفكُّ عن صورٍ إلاّ أتــت صـُوَرُ
وقوله (كاف الصفات): بمعنى كافي الصفات، وحذفت الياء لضرورة الشِعر، والأبيات ذكرها الفيروز آبادي، والشاعر إنما يتحمس للخيال هنا لأنه المعنى الذي يقرب للعقل الإيمان بالعقائد الغيبية، ولا يجعلنا هذا الغرض المفيد نـزهد به فيما سوى ذلك، بل هو المدخل أيضاً لتقريب الاجتهاد في الحلال والحرام وآثار الأحكام.
مثال الأمر العقيدي: (عالمُ البرزخ: معقول في نفسه، وليس إلا الخيالُ، فإنك إذا أدركته وكنت عاقلاً: تعلم أنك أدركتَ شيئاً وجودياً كأنك وقعَ بصرُك عليه، وتعلم قطعاً بدليلٍ انه ما ثَمّ شيء أصلا، فما هو هذا الذي أثبتّ له وجوديةً ونفيتها عنه في حال إثباتك إياها؟ فالخيال لا موجودٌ ولا معدومٌ، ولا معلومٌ ولا مجهولٌ، ولا منفي ولا مثبت)
أما الخيال الذي يستنبط حكم الحِلّ والحرمة: فأمره أظهر، لأنه يحوم حول محسوسات، من مصالح واستقراءات مقاصدية، ومجاله العملي لذلك أقرب.
فمن يزعم المشاركة في الصناعة الفكرية: يلزمه أن يُطلق لخيالاته العَنان،وأن يسيح في آفاق التصورات، وأن يقترب من المستحيل، حتى إذا قاربه: يرجع ناكصاً غير خسران، ثم أن يقتحم المجهول، ويتسور الأسوار، ويمشي في المجاهل شجاعاً كأنه يسير في الأسواق، لأن الفكر إذا لم نَسبق إليه طريفاً: بارَ وعَافهُ الناس، والبواكير تستبد بالثَّمَن، ثم عند الحصاد يكون الرخْص.ولو رجعنا إلى أبيات الشعر لظهر بوضوح أن الشاعر أدرك تماماً مكمن الأهمية عند اكتشافه القيمة التوليدية للخيال، فإنها في ملاحظته: ما تنفك عن صور إلاّ ويكون ورود صور أخرى، وهذا التوليد هو الذي أغرى أصحاب صنعة الفكر أن يهيموا بالخيال، لأنه ثروتهم الحقيقية.
و"المجاز"هو الجناحُ الذي يحلق بنا ويوصلنا إلى هذا الخيال الثمين، أو هو على الأقل: لغة تواكب المعاني التي يثيرها الخيال ليقنصها، كمِثل ماهر يقترب بحذر من غزال بريٍ، يغافله، فإذا جفل: ركض بموازاته حتى يصيده.
وهو صنعة قديمة، ومنَحانا المفرط في النـزعة العملية حَرَمنا من فوائده، وزَعَم أهل التأويل أن القرآن امتلأ مجازا، وزعمهم صحيح لولا أنهم جنحوا إلى تمويه بدعي في مواطن عقيديةٍ غيبيةٍ حقّها التوقيف الصريح، والمجاز قريب من فطرة الأوائل قبل أن يشوب الحياة التعقيد، ومن شأن روّاد الفكر والاجتهاد أن يُحيوه ويحتفلوا به.
قال الأصمعي: سمعتُ أعرابياً يقول: (مَن نـَتـَج الخير: أنتج له فراخاً تطير بأجنحة السرور)
وهذا تصوير أدبي رمزي ناجح، ما كنا ننتظره من صحراوي يابس، لكن الخير له قوة نافذة تجعل البدوي ينطق بالمجاز والتمثيل الحلو، فكأن نتائج الخير عصافير تخفق بأجنحتها حوله، مع الصوت والصفير والتغريد، فتكون لوحة سرور، وهذا إحساس يجده فاعل الخير المكثر منه إذا حَسُنت نيتُه، فينفق وهو فرح، ويأمر بالمعروف وهو طروب...
ويلتذ مع كل غدوة خيرية، وتحلق روحه مع تلك العصافير عند كل رَوحة إحسانية.
lوكذلك الفقيه ثم المفكر والأديب، فمَن نَتَجَ الخيالَ، ورصد وقتاً طويلاً للتأمل وتوليد الخواطر وحاوَرَ نفسه وتعمّق في الافتراض: أنتجت له تأملاته فراخاً من الاجتهاد والمعاني والإبداعيات، تخفق بأجنحتها فتبعد، فتنـزل على أكتاف الدعاة في زوايا الأرض، فتغرد، فتدخل لغتُها العقولَ والقلوب.
لكن صنعة الفكر الاجتهادي بهذا الوصف: تخرج عن حدود المحيط السهل، وهي مهنة النبلاء الأذكياء ومعادن النُخبة وأفراد الصفوة، وكم من مستشرف لها بدون كفاية تطاول فشجّه السقف.
وإنما تنبغي وتسهل صعابها بشروط خمسة:
أولها: ضبط الاجتهاد والفكر وسياحات الخيال بقواعد أُصول الفقه ومنهجية الاستنباط وقواعد النظر، وإلا كان الشطح واللبث بمستوى السطح، والمصالح بخاصة: معنى يزعمه كل ميمم وُجهة، حتى هَزُلت، وينبغي عدم الذهول عن تعارض المصالح، فإن من النادر أن يرتبط أمرٌ بمصلحة مفردة، وإنما بمصالح عديدة ومفاسد يقوم بينها تنافسٌ أو تضاد، ولا تعتمد التحليلات أحادية السبب، بل هي أسباب كثيرة وإن اختلفت مراتبها ودرجات تأثيرها، والعاصم من الورطات: أن تستقبل علم الأصول أنه: (مثار الحُجج، ومعيار البراهين المصون عن الزيغ والعِوَج)، وذلك ما استقبله به من الفهم: المجد الفيروز آبادي
أما الحجج والبراهين فهي النصوص واستقراء المعنى المشترك في حشود النصوص، ومنها تتشكل الثوابت والقواعد والموازين، لكن هيئة تحقيق كتاب الفيروزي ألجأتهم الحماسة العقيدية إلى أن ينكروا الصيانة عن العِوَج، لأن براهين الأصول يمكن أن تتطرق إليها اعتراضات ومناقضات مثل التي تتطرق إلى غيرها من العلوم الاجتهادية، ولم استحسن غضبتهم هذه، فإن مُراد الشيخ لم يبعد ليتناول إقرار العصمة، وإنما أراد الإشارة إلى ما تقود إليه قواعد الأصول من وعظ الفقيه والمفكر والخيالي أن يحرصوا على الانضباط والخضوع لمفادها، والحذر من التهور والمبالغة وجزاف القول الموغل في التحرر من مفاد مُجملات الشريعة، ونـحن اليوم أحوج من تلك الأجيال إلى هذه المواعظ، للانفتاح الجاري بين أفكار الأمم، والجهل يُغري صاحبه بالاسترسال مع العقليات والتأويلات ومزاعم المصالح وضبابية الإشارات المقاصدية، فتكون دلائل الأصول سبب عصمة، وفي هذا ما يوجب على المنهج العلمي التربوي الدعوي أن يروّج للدراسات الأصولية في المحيط الدعوي الخاص ثم العام، وأن يُصر على ذلك شارحاً ومفسراً مغاليق اللغة الأصولية، حتى تكون ثقافةً سائرة عند الجيلين، وذلك طابع ترشّح”العين"نفسها أن تنطبع به وتخضع له، ويليق لخطط التطوير والتدريب أيضاً أن تعقد الدورات لتدريس علم الأصول، وأن تكفل بعض الدعاة وبعدد كاف ليكونوا طلاب دراسات عليا في الأصول في الكليات الشرعية لينتصبوا فيما بعد كقدوات دائمة في المجتمع الدعوي ورقباء على صنعتي الاجتهاد والخيال وعلى صناعة القرار، لأن حيثيات علم الأصول أدق من أن يوعظ بها جملةً واحدة لتؤسس رقابة دائمة ووقاية شاملة، بل ينبغي أن تكون حاضرة عند كل الحركات التفصيلية للأحداث والسياسات، لأن أطراف معادلاتها المؤثرة في المواقف تتغير، وتجعل الرؤية نسبية، ولا بد من ملاحظة حكم الوقت وعوامل الظرف، وهي عملية تدقيق يخولها الشرع للفقهاء وعلماء الأصول ويفوضهم إياها، لا لوزير مثلاً، أو برلماني، أو إعلامي، أو أي قيادي دعوي لا يتقن معرفة الأصول، والشروط الفقهية لاعتبار المصالح وتمييزها هي بخاصة من أهم ما يَلزم صناع القرار مراعاته، وفيها نظر فراسي ذوقي لا يسهل على الطارئ أن يعرفه، وإنما تلزمه ممارسة أصولية طويلة متكررة ليتمكن منه الفقيه، ولا تكفي فيه المراجعة الميكانيكية السريعة، وإنما هو حكر على فقيه مسترسل يطيل محاورة ثلّةٍ من فقهاء، وكان قد جلس بين يدي المشايخ دهرا.
qالشرط الثاني: وفرة الأحاسيس الفنية لدى المفكر، وعلّو درجة الذوق الجمالي، بل الموازين الجمالية هي أُخت الموازين الأصولية وبينهما طِباق وجناس في الاشتقاق ثم في الأثر والنتيجة، وغاية علم الجمال الإسلامي أن يميل بالنفس نحو سكينة أعمق بعد طمأنينة الإيمان، لأن الحالات النفسية هي الجذر الأسفل لورقات الاجتهاد، فإن كان ثَم استقرار وهدوء في الأعماق: جاءت الورقات خُضراً ربيعية ولها نضارة، وإن كان المنغرِسُ مزيجُ القلق اللاهب والفوران العاتب على الأقدار: جاءت الورقات حُمراً خريفية يابسة، تـأمر بالعبوس والغضب والثأر، لــــذلك لا يمكن فصل لغة الألوان وسياقات تجانسها عن لغة الاستنباط وسياقات الاجتهاد، ومن هنا كلّفت"العين"نفسها باستحداث تربية جمالية في محيط الدعاة وخطط التطوير، لأن المعيار الجمالي ما هو بشيء طارئ وثوب يُشترى ويُلبس، وإنما هو جملة انعكاسات كثيرة تنمو على مهلٍ وتبقى تتراكم في رحاب الفطرة السليمة النقية غير الملوثة، فإن كان مُعلّم الجمال قد تأخر وصوله فانـحرفت الفطرة: انتظرنا عملية بطيئة تزيح التأثيرات الجمالية خلالها ترسباتَ التناشز والتنافر، وندع همسات الجمال تطغى على تمتمات الوساوس، وومضات النور تبدد عتمات الظلام، وقد جاء الفن التجريدي العالمي المعاصر على قَدَر، وأكثره يتوافق مع النمط الإيماني في الرمزية والتمثيل والإيماء، ولا أجد تباعداً وافتراقاً، ومن الممكن أن نستثمر إبداعاته لتطوير فن إسلامي إشاري يكتفي بجزء المبنى للإفصاح عن المعنى، وبالأثر للدلالة على المؤثـّر، وبالظل عن الجسم، وقد أبرمت"العين"خطة فنية تريد أن ترتفع بأذواق الدعاة ومعاييرهم الجمالية، من أجل أن تنالَ اجتهاداتهم الصفاء وتنسابَ سَلسة، وكل اجتهادٍ لم يودع رَحِم الجمال فإنه حجر يتدحرج، وقد يتكاثف زخم العنف فيه، وقد ينتهي هادراً هادماً، وهل"اللطخات"الحمراء التي أرهقت الناس بعد تكفيرهم غير ذهول وغفلة عن مبتدأ درب الوميض الجمالي؟؟
ومن الغريب أن نتكلف نـحن في الزمن المتأخر مهمة البرهنة على وجود هذه العَلاقة الطيبة بين الجمال والفكر، بينما كان أجدادنا أوعى لها، فمما استوعبه ابراهيم بن محمد الشيباني في جيل السلف: أن حُسن الخط يمنح(بهجة الضمير)
وذلك يعني أن التجربة قد استوفت إدراك العلاقة بين الفن والنفس، وأن صناعة الجمال وسيلة قريبة لإنتاج الانفتاح النفسي، وتحقيق طرب الروح، وانتظار أصداء داخلية إيجابية يمكن توصيلها بومضة جمالية ثانية، ثم ثالثة وجعلها تترى، فما يزال الإنسان السوي موصولاً بالفرح ونلمس منه إقبال القلب، ليردف الحقيقة الإيمانية، وهذه لمسة قديمة عريقة ترينا طرفاً من"الوعي الجمالي"لأجيال المسلمين الأولى، وتخلُّفَنا نـحن اللاحقون، وكان من اليسير علينا أن نتناوش التفاؤل والبشائر من مكان دانٍ ووسيلة سهلة فطرية بعيدة عن التعقيد، ولكننا ابتعدنا، وكتبنا على أنفسنا طول الطريق، ويليق أن نقترح على من لم تطحنه بعد آلام السياسة وضغوط معاناة الإصلاح أن ينتفض ويميل نحو الدرب الحضاري ليضع مع أقرانه"ميثاق التربية الجمالية"التي تظاهر وتسند آثار التزكية العقيدية الشرعية وصفاء التوحيد، وتكون مورداً للفكر ومَدْرجاً تدرج عليه محاولات الاجتهاد.
وأصل القضية: أن النفس السوية الفطرية الساذجة: تُدرك المعنى الجمالي وتناسق الألوان، كذاك الأعرابي البدوي الذي سألوه: (أي الألوان أحسن؟
قال: قصورٌ بيض، في حدائق خُضر)
ومعنى ذلك أن حاسته الذوقية أدركت التناسق والتركيب الجمالي بين لونين، لا الانطباع الذي يولده لون واحد فقط، وعلى مثل هذه الإمكانية نبني خُطتنا في التربية عَبْر لغة الجمال، لتؤول في النهاية إلى لغة فقهٍ وأدب، ولغة حماسة وجهاد واعٍ واجتهاد.
الشرط الثالث: جماعية الرأي، وتكوين رُوحٍ كُلّية مشتركة تخرج عن الحد الفرداني والفهم الشخصاني، فيرتقي الفكر من مستوى الذوق الخاص إلى أن يكون تجربة عامة لا تعكر عليها محدودية الذكاء أو سلبيات الغضب، وذلك نمط وَرَدَ عند السلف وانتبهوا له.
فإنما نعاني-نحن معشر الدعاة-مذهباً واحداً في الكتابة والبحث والتأويل، تبعاً لوحدة الجذر والمستقى، وتأثراً بثوابت الشرع، والكتلة الموضوعية المعنوية في مدونات فقه الدعوة هي فكر متصل، بعضه من بعض، وكأننا نـحقق ظنّ الحسن بن وهب حين قال:
(الكاتب نفْسٌ واحدة، تجزّأت في أبدان متفرقة)
فأسماؤنا شتى، وأساليبنا متنوعة، وبلاغتنا درجات، ولكن الفحوى مترادفة، والطرائق متناسقة، والوجهات متوازية، وينتظمها اجتهاد متقارب، وتحركنا عواطف جامعة، ويجذبنا ويسوقنا تحليل يتباعد من أجل أن ينعطف نحو اندماج وتداخل، ففينا ينتسب الجزء إلى الكل، وإذا انتشرت تأملاتنا نحو الأطراف القصية: ارجع المحيط أصداءها إلى المركز، فتكثف، وتكون شديدة قوة التأثير، اشتقاقاً من الحقيقة الليزرية وحرارتها، فيعود امرنا بحاجة إلى رمزيات وخيالات يحس بها المخالط لنا بَرْدَ الفكر الإيماني المطمئن الذي لم تكوه لذعات القلق، ولا شتَّـتـتهُ متاهات البحث عن الصواب، ويعود المحيط يحوينا ويحويه، في دائرة واحدة، تكون مثالاً للبيئة المتجانسة التي تنتج "الكتابة الجماعية" المشتركة، وإنما أُريدت مجلة"العين"لتكون هذه البيئة.
lوسبب هذه الجماعية الفكرية: أن جمهرتنا الدعوية لم يحشدها تجنيد إجباري أو سَوْقٌ جزافي أو سباق نـحو مصالح دنيوية، وإنما جَمَعَـتْنا بَيعة رضائية، وأغرتنا جنانٌ وأُجور أُخروية، فثبتَ الحق لكلٍ منّا أن يضع حَرفاً في وثائق الرأي.
و"الشورى" وفق أدب الشرع إنما تجمع نصف هذه الحروف فقط، لأنها تكون في سويعاتٍ كل موسم، وفي سياقٍ لا يختاره المستشار، وتعكّر على الرأي آنذاك حِدّة انقسام الرأي في المواقف المشكلة، وهي غالباً ما تكون كذلك صفتها، وهذا التعكير يمنع بعض الرأي، لكن"التحدي"المتولد من حماوة البحث واستقتال كل صاحب مذهب في الانتصار لفحوى مذهبه يُتيحان ظهور حروف كانت مركوزة في الأعماق وأثارتها المساجلة فطفت إلى السطح، فتكون تعويضاً.
وأما النصف الآخر من الحروف فإنما يتراكم ويَتولد ويتكثف في عملية بطيئة عبر حوارات حُرّة في وقت غير عصيب، ويكون استرسال الداعية خلالها على السجية، وترفع عنه إرهاب الرقابة والإعابة، وتمنع عنه إلقاءات التقليد إذا شاهد عند التصويت كثرة كفوف ترتفع بالموافقة أو الرفض كأنها غابة، فيملكه الاستحياء فيخالف قناعته، أو يتقي تهمة الانفراد وخرق الإجماع فلا تبدو منه مناضلة ومقارعة.
وما دام الوصف كذلك: فإن مولّدات الفكر إنما تكون عبر تقسيم كتلة الدعاة الكبرى إلى زُمرٍ صغيرة تتشكل منها المحاور والمنابر، والمجلات منها، ودُور العلم منها، والمؤتمرات والندوات ووسائل الإعلام، إذ هناك يكون التكافؤ وشعور الأمن ويبلغ استفزاز المكنون أقصى درجاته، وفي هذا السياق المنهجي استأنفت"العين"بزوغها، لا تُغري الخيالي المتأمل بإفصاحٍ شجاع فقط عن حروفه، بل تدربه وتعينه على خطّ الحروف جَليّة، لتكون رَحياناً وتعليقاً وديوانا.
الشرط الرابع: بذل المجهود، ومضاعفة التعب، واستنفاذ الوسع، والتعنّي في الطلب، وشدة الحرص على الوصول إلى نتيجةٍ اجتهادية، والإبعاد في الخيال.
ومفاد قصة موسى والخضر: استحباب إيغال طالب العلم في الرحلة إلى العلماء ليأخذ عنهم ويتفقه بهم.
وفي آية سورة الكهف: (لا أبرحُ حتى أبلُغَ مجمَعَ البحرين أو أمضيَ حُقُبا)
(أي: ولو أني أسيرُ سنين كثيرة. والحقْبُ: سبعون سنة، أو ثمانون، وقيل: أكثر.
فمثلُ هذا النبي الكريم الحليم يقول: إني أسيرُ إلى لقاء هذا العبد الصالح، ولو أني أسيرُ هذه المدة المتطاولة والسنين الكثيرة حتى أظفَرَ بلُقياه)
وللدعاة في هذا الهدي النبوي تذكرة، ولهم معه مناسبة اقتداء، وتطاول السير إنما هو إشارة لجنس البذل وإتعاب النفس حتى يصيبها الرهق، ودلالة الاقتضاء تجعل كرم الداعية وإنفاقه لماله ووقته وصحته وخبرته مثيلاً للسير حُقُبا، فمن أراد أن يماشي رجال"العين"فليستعد، وليبذل.
lوهذه هي طريقة محمد بن عبد الباقي الحنبلي الإمام، وقد أفصح عنها فقال:
)ما أعرف أني ضيّعت ساعة من عمري في لهوٍ أو لعب)
وقد نقضنا اجتهاده هذا في"صناعة الحياة"، ورأينا في اللهو تجديد النفس والطاقات والهمة إذا كان بمقدار، ولكنها سيرةٌ في وتيرة الجد والمواصلة والإنتاج نعظ بها أنفسنا: أن نكون دوماً في الاستنفار لا نهدأ، وإنما الراحة تمكين لذي العزيمة أن يستعد لجولة أخرى من الدأب، ويميزها الأصيل عن التمادي والرخاوة والتضييع، ومَن ركب أمواج العزائم في شبوبـيته: أطال التحديق بقية عمره نحو المعالي، فيفتأ يكون صاعدا، لا يستلذ الوقفة، بَلْهَ النـزول.
والمحرك لمثل هذه المبالغة: عُشق العلم، فعن ابن الجوزي أنه قال:
(ما يتناهى في طلب العلم إلا عاشق)
ومثل ذلك: الإصلاح، والجهاد، وأغلب أبواب الخير، وهذه هي الرتبة التي تليق للداعية أو طالب العلم: أن لا يرضى ببقاءٍ على هامش، أو لبثٍ عند ساحل، بل يكون الولهان الذي يهيم غراماً بجلسة بين يدي أُستاذ، وأجمل أمانيه أن تنال يده أي كتاب ثم يُتاح له أن يبقى معه نهاراً كاملاً بلا إزعاجات قرينٍ كسول يعزف عن العلم ويرصد اهتمامه لتتبّع أسعار الباذنجان.
lوأصل الطموح يستلزم إرهاق النفس، فإن المعنـى الأول الذي يتبادر إلى الذهن عند تفسير الطموح: أنه ذهاب إلى أبعد من الحدود المرئية، وتجاوز للقناعة، واقتحام المجهول، وطلب المزيد، وتوسع الأمل، وارتياد العرصات البكر، وبلوغ الأقاصي، في مثابرة، وموازاة للأشواق وحرارة العواطف إذا حَمت.
والخيال شريك في هذه العزمات كلها، وقد أوجبناه على المفكر والمجتهد والمبدع، وألزمناهم به، فعاد هو والطموح يستلزمان المبالغة في البذل، وإطلاق العنان لجوادٍ يقطع المسافات، ولتصورٍ تأملي لا يجب أن تكون له نهاية، ثم عادا معاً: الخيال والطموح: يقدمان الضمان أنْ إذا قطع الهمام المسافات وسار الحُقُبَ ولقي المجتهد: فإنه لا يقلده، لأنه قد أُوتي بهما عُدّة الإبداع كاملة، فلماذا يقف؟ وجدير به أن يبدأ من حيث انتهى أُستاذه الحكيم، لا من حيث بدأ وتوسط، وإنما أراد الملاقاة والاقتباس لتستمر أسانيد الحركة العقلية لا ليتواكل ويقنع، والمجرّب يدرك أن وصول التلميذ إلى شيخه يمنحه إمكانية الارتفاع والنظر الرفيع الفوقي، ومعنـى ذلك أن ساحات الخيال قد توسعت أمامه، فتعود وتيرة الاجتهاد تهتز وتنـتج.
الشرط الخامس: وجود الظهير المعين الذي يحمل عبء الجهود المعاشية وأثقال الأعمال التنفيذية، من أجل أن يتجرد المفكرُ للتأمل والتنظير، والمجتهدُ للقياس والتقعيد، وذلك هو "الكاتب" بلغة السلف، و"السكرتير" بكلام الأعجمين المعاصر.
ففي القديم كان السياسي يتمنى ...
مَن لي بكاتب لبـقٍ رشيـق زكـيٍ، في شمائـله جَـدَاره
تُناجيه بطرفك من بعيد فيفهم رَجْع لحْظِك بالإشاره(10)
لكن هذا التمني سهل، وحصول تواضع الظهير صعب، لأن مثل هذا الصاعد الذكي المؤهل إذا اكتشف الشمائل الحسنة التي حباه الله بها: سرعان ما يتخيل لنفسه الرئاسة أيضاً، ويسلك القفز، لا عتبات المدارج.
ومع ذلك فما زالت تلك المظاهرة هي اُمنية القائد الدعوي، والرمز الذي يتصدى لزعامة الجمهور، والبرلماني، وكبراء الإعلاميين، وأقطاب التربية، ورؤساء المؤسسات، ورواد الاجتهاد والتجديد الفكري.
وذلك أن التأمل حالٌ يقتضي التفرغ والبعد عن الشواغل والملهيات ومُثيرات الغضب والتوتر وجالبات الأحزان، وهو منـزلة متقدمة موهوبة هبة من الله تجعل العقل دائب التحرك، موزوناً تغلب عليه الأنماط المنهجية، ويحتاج إلى سكون طويل وانسياب يتهادى خلاله بين القلب والنفس من أجل أن يصل إلى درجة العنفوان ليكتشف معادلة أو عَلاقة أو وصفاً دقيقاً، ولذلك يجب أن يُعان على الوصول إلى هذه الدرجة من الحركة من دون تعكير أو السماح للصوارف أن تصده وهو في منتصف دربه وتلهيه، فهو مؤهل مستعد قد أُودعت فيه إمكانات الإبداع، لكنه حسّاسٌ جفول وحشي الطباع كأنه غزال وثاب نفور، و كأنه جوادٌ بري أبيض اعتاد حُرية الخَبَب في المروج الخضراء فينطلق فجأة إذا اقترب منه غريب!! ولذلك يجب أن يَترك الرهطُ متميّزهم هذا لسياحاته التأملية، وأن ينتظروا ترجمات الإلهام التي يفوه بها أو يخطها قلمه، ومن جُملة الإعانة له: تفريغه، ورفع وسوسة المعاش عنه.
قال ابن الجوزي: (كان للعلماء مَن يُراعيهم من الإخوان، حتى قال ابن المبارك: لولا فلانٌ وفلان ما اتجرتُ، وكان يبعث بالمال إلى الفضيل وغيره)
أي أنه كان يمارس التجارة من أجل أن يُعين العلماء. وهذه سُنة دعوية كانت سبباً في عمران العلم ودوامه، ومانعاً أن يـمد الثقة يده إلى سلطان ولئيم، والمفروض أن يحييها أغنياء الدعاة اليوم، من دون فضيحة ومنّة وإحراج، بل بالسرّ والستر، فإن الحياة تعقدت، ويكاد طالب العلم والمفكر إذا ابتلي بعائلة أن يقطع سيره وتتلفه وظيفة ومهنة، والعفاف زينة العلماء، فليوفره الأغنياء لهم لتصلح الحياة ويكون الاقتداء، وليتجردوا للتفكير وصياغة تعابير الإيمان وتفسيرها، وموازين الخطط والمناهج وشروحها، وأحسن من ذلك: أن تتولى الإدارة الدعوية هذا التفريغ، فإنها الأعرف، وأن يُسمى راتبٌ دائم يُقدّر وفق قواعد ونظام، على أن لا يعامل المفكر وصاحب الصنعة العلمية كالتنفيذي.
أما بعد: فإننا بتوفير هذه الشروط الخمسة: يمكن أن نقترب من النجاح في تجويد صنعة الفكر الإسلامي المتقدم الذي يؤذن له أن يرتكب الإبداع، والله الآذن، وله المشيئة، وإذا صدق القول في أن الشركات الكبرى تصرف عُشر ميزانيتها على عملياتها التخطيطية والتسهيلات الإدارية: فإن القياس يشير إلى أن الدعوة يلزمها أن تؤمن بمثل هذا المنطق، وأن تمنح الفكر اهتماماً مضاعفاً، وأول ذلك: العلم الشرعي الذي يمكن تنميته تحت ظلال أُصول الفقه، ثم المعرفيات بعامّـة، والأداء الحضاري، ولا ينبغي أن نترك الدعاة عُشاق العلم لأقدارهم، بل أن نعينهم بمثابات مؤسسية، وترتيبات منهجية، وبتفريغ وابتعاث، وتنصيب رؤساء على مجاميع كثيرة ننشرها في الساحات، ثم برفع"نبراسٍ" نوريٍ فكري يُناسب المستوى النخبوي الذي وضعتهم هممهم فيه يكون محور البَـوح والحوار والنقد، ويراد لمجلة " العين " في طورها الجديد أن تكون هذا النبراس والمحور، تواصل الشوط الأول، وتبني طبقة على طبقته، وتعتني بنشر مفردات كثيرة وتفصيلات تجزيئية في ميادين الفقه والأُصول والفكر المتقدم النخبوي النقدي، وفي علوم التخطيط والإدارة والإبداع، وفي النظر السياسي من زاوية استراتيجية شمولية، ومعرفيات التاريخ والأدب والفن بأنفاس عميقة، لتكوين نظريات العمل الإسلامي، ثم لتحديد خصوصيات القضية العراقية خلالها، بما كان ويكون من صيرورة القضية العراقية قضية مركزية للأمة.
lوقد مدح أعرابي رجلاً، فوصفه بأنه: (بعيد مسافة العقل(
ثم قال:(إنما يرمي بهمته حيث أشار الكرم)
ومثل هذا النموذج هو الذي تحتاجه مرحلة العمل الدعوي الإسلامي المعاصرة، فإن العاطفة تصنع شيئاً، ولكن العقل يمنح أكثر، إذ باتت الحياة معقدة، وتؤدى الأمورُ بتخصص، وتلزمها خطة، وتنظمها منهجية، وكل ذلك تترجمه مساحة عقلية لها سعةٌ وامتداد، لكن ينبغي أن تكمّل ذلك همةٌ عالية بعيدة تستهين بذل الغالي.
لذلك كان من تمام وصف الآخر له أنه: (مستحكم الأدب، من أي أقطاره أتيته: انتهى إليك بكرم فعال وحُسن مقال(.
فهندستُه كثيرة الزوايا والأقطار والتربيع، وله استدارة أيضاً وتكوير، وما بين ذلك كله شأنٌ سالك: الفعلُ سوي مؤثّر، والفكر واضح، والبيان يحكمه منطق.
فتلك صفات الداعية الناجح الذي تريد"العين"أن تساهم في تربيته وصناعته.
وتلك آفاق”العين"وغاياتها ومنهجيتها ووسائلها، وكل داعية شريك وكفيل ومالك، والتطوير قد يعسر في الساحة العريضة، والزعامة قد تنالها تهمة إذا صارحت، فكانت إنابة"العين"لتكون البديل، وآلة التطوير، والزعامة الفكرية الواعدة.
ولرجال الخيال من "الراشد"تحية
تعليقات الفيسبوك