مقالات الشيخ عبد الله

هكذا علمني الجهاد

هكذا علمني الجهاد ([1])

(الشيخ عبد الله عزام)

 

فلم يعد خافياً على ذي بصيرة أنًّ الجهاد أصبح مدرسة فذة يتتلمذ فيها العالم الإسلامي أجمع.

وقد شرفني الله أن أكون من بين التلاميذ الذين ينهلون من معين هذا الجهاد، ويتربون على مائدته، وأستطيع بعد ست سنوات متواصلة من هذا الشرف العظيم أن أسجل على عجل وبخطوط عريضة بارزة القواعد الكبرى التي خلصت إليها من جهاد أفغانستان وفلسطين فأقول:

أولاً: عقيدة القدر.

إنَّ عقيدة القدر لا يمكن أن تتجلى واضحة في النفس البشرية في ميدان أكثر منه في ساحة الجهاد.

ولا يمكن أن تتمثل عقيدة التوكل على رب العالمين حية بمثل أرض القتال وميدان النزال وخاصة في قضيتي الأجل والرزق اللتين تمثلان أعظم عمودين في الحياة البشرية، وقد سطرت هذه العقيدة في صفحات الكتاب العزيز بآيات محاكمات:

(وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً) ([2])

(وفي السماء رزقكم وما توعدون) ([3])

والنّاس يوحدون الله بهذه العقيدة (عقيدة الأجل والرزق)

توحيد الربوبية (التوحيد العلمي) ولكن النقلة البعيدة من توحيد الربوبية إلى توحيد الألوهية (التوحيد العملي) فهذا الذي يتكفل الجهاد به بتحويل الكلمات إلى توكل يتمثل في مواقف فريدة يخاطر فيها على النفس والمال والحياة، وعندها يصبح المؤمن جبلاً راسياً تهتز كلها دون أن يميد أو يتأرجح.

العقدة الكبرى:

إنّ أكبر عقدة في حياة الدعاة هي عقدة الخوف (الخوف على الرزق والأجر) فإذا انحلت هذه العقدة انحلت العقد كلها وفي هذه الأيام أصبحت عقدة المخابرات هي العقدة التي أحالت الدعوة والحركة إلى إشارات خفية وألغاز ومعماة سرية لأن المخابرات يمثلون شبحاً رهيباً يطارد الدعاة في سباتهم ويقض عليهم مضاجعهم، وذلك خوفاً على رزقهم أو أجلهم.

والجهاد: تحرر من جميع العقد والحمد لله، لقد من الله علينا بالتحرر من هذه العقد، فعندما يقولون لي: فلان من المخابرات فكأنما يقولون لي: أبو تمام مدح المعتصم، أي لم تعد تثير فيّ اهتماماً ولا تحرك في أعماقنا أية مخاوف.

 

ثانياً: العزة.

ومما علمني الجهاد أنّ المسلم أعز مخلوق في الأرض إذا كان مجاهداً، لأن أعز ما يملك المرء هي الروح، وهو يخاطر بروحه ويعرضها كل يوم على خالقها ليتسلمها، فكيف يمكن لهذا الإنسان أن يحني هامته أو يذل عنقه؟ وصدق الله العظيم:

(ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) ([4])

والعز في صهوات الخيل مركبه       والمجد ينتجه الإسراء والسهر

وقد علمني هذا الدرس ذلك الشيخ الأفغاني في مخيم ناصر باغ عندما تقدم نيكسون ليصافحه، فقال: لا أصافحه - وإن كان رئيساً لأمريكا - لأنه كافر.

ثالثاً: حقارة الحياة وصغرها في نظر المجاهد كما جاء في الحديث الصحيح: ([5])

(لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء).

وهذا يتفق مع نفسية المجاهد وارتفاع اهتماماته وعلو مكانه، وهو ذروة سنام الإسلام، فهو ينظر إلى الأرض ومن عليها فتبدو صغيرة ضئيلة في نظره.

يقول - أحد قادة المجاهدين - لأحد أبناء الحكام: ([6])

(والله إن مائة عرش مثل عرش أبيك لا أعدلها بلحظة من لحظات الجهاد).

رابعاً: وتعلمت أن الحياة الحقيقية هي حياة الجهاد والمجاهد، ولذا فإني أعتبر عمري الآن سبع سنوات وهي التي قضيتها في الجهاد، ست منها في أفغانستان وسنة وبضعة أشهر في فلسطين وهذا يتفق مع رأي بعض المفسرين في معنى الآية الكريمة:

(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) ([7]) استجيبوا لما فيه حياتكم وهو الجهاد ..

خامساً: وعلمني الجهاد أن الإسلام شجرة لا تعيش إلا على دماء الشهداء، فإذا جفت الدماء ذوت عروق هذا الدين وذبلت واضمحلت وضمرت.

سادساً: وخرجت من الجهاد بيقين: أن الجهاد ضروري جداً للحركة الإسلامية وكذلك، فالحركة الإسلامية ضرورية لإشعال زناد الجهاد وقيادته، والشعب ضروري للحركة الإسلامية حتى يستمر جهادنا بهذا الوقود وهو الشعب، فإذا لم تجاهد الحركة الإسلامية تآكلت واشتغلت ببعضها ودبت بينها الفتن وانتابها التشقق والتمزق لأن الفراغ قاتل للنفس والمجتمع.

والحركة الإسلامية تمثل الصاعق الذي يفجر أطنان المتفجرات، فالشعب هو المتفجرات والحركة الإسلامية هي الصاعق الذي يشعلها ويفجرها، ولا تستطيع حركة إسلامية مهما كانت أن تواصل حرباً طويلة الأمد ضد دولة ولو كانت صغيرة فضلاً عن أن تقف سنوات أمام دولة كبرى، والحركة إذا عزلت عن الشعب فقد قضت على نفسها بالموت، كالغصن إذا قطع من شجرته مهما كان ناضجاً كبيراً فإنه يذبل ويموت.

وكثرة الثقافة لحركة دون جهاد جد خطير على النفوس، لأنه يقسي القلوب ويورث الجدل.

سابعاً: أنَّ هذا الدين لا يفهم إلا من خلال الجهاد به لإقراره واقعاً في الأرض، والذين يقضون حياتهم بين صفحات الكتب وأوراق الفقه لا يمكن أن يدركوا طبيعة هذا الدين إلا إذا جاهدوا لنصرته.

فهذا الدين لا يفهم أسراره فقيهٌ "قاعد" (وإنَّه لجهل فاضح بطبيعة هذا الدين أن يفهم أحد أنه يستطيع التفقه في هذا الدين وهو قاعد يتعامل مع الأوراق الباردة ولا يستنبط الفقه من قوالبه الجامدة.

إنَّ الفقه لا يُستنبط إلا في مجرى الحياة الدافق ومع الحركة بهذا الدين في عالم الواقع ([8])

وهذا يتفق مع فهم الحسن البصري والطبري ورواية عن ابن عباس رضي الله عنهما للآية:

(فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) ([9])

إنَّ الفرقة التي تتفقه هي الفرقة النافرة للجهاد، ولذا كان المسلمون إذا أعضلت عليهم مسألة يقولون: أعرضوها على أهل الثغور.

والحق أنَّ الفرقان بين الحق والباطل لا يحصل إلا للمتقين: (يا أيها آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً) ([10])

يقول ابن تيمية:

(الواجب أن يعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدين في ظاهر لا خبرة لهم بالدنيا)، أي لا يسأل عن الجهاد إلا العلماء المجاهدون.

إنَّ الدينونة لهذا الدين هي التي أنشأت المجتمع المسلم، والمجتمع المسلم هو الذي أنشأ الفقه من خلال الحركة الواقعية بهذا الدين.

ثامناً: وعلمني الجهاد أنَّ الدولة الإسلامية لا يمكن أن تقام إلا من خلال جهاد شعبي طويل تتميز فيه أقدار الناس، وتتحدد مقاماتهم، ولا يبخس الناس بعضهم مقادير بعض، ومن خلال هذه المسيرة تبرز القيادات الحقيقية من خلال الشجاعة والتضحية، ويكون الخليفة أحد هؤلاء المجاهدين، ولقد كان ميزان التفاضل بين الصحابة عدد الغزوات والسرايا التي شهدها.

ولذا لم يحتج أبو بكر إجماع الأمة على انتخابه خليفة إلى تزكية أحد أو إلى دعاية انتخابية.

وميزان التفاضل الآن بين المجاهدين هو عدد السنوات التي قضاها في المعركة.

تاسعاً: وعلمني الجهاد أنَّ الدولة الإسلامية التي تقوم من خلال الجهاد لا يمكن القيام بانقلاب عسكري عليها، لأن الناس كلهم يحملون السلاح، ولأن مقادير القيادة فيها برزت من خلال أعمالهم وصبرهم وتضحياتهم.

ولأن الوصول للسلطة لم يكن في الظلام من خلال الدس والمؤامرة، وإنَّما جاء واضحاً كالشمس في رابعة النهار، والقيادة هي أصلب الناس عوداً وأصفاهم عنصراً وأصدقهم لهجة وأبسطهم عيشاً، وهذه القيادة دفعت ثمناً غالياً لإقرار الدولة، فلا يمكن أن تفرط بها، والقيادة التي يفرزها الجهاد .. قيادة جاءت من صفوف المجاهدين، عاشت على الشظف والخشونة والتقشف والزهد مع المجاهدين، وتستطيع مواصلة العيش على هذا النهج.

عاشراً: وعلمني الجهاد أن الجهاد أفضل وسيلة لتربية النفس البشرية، إذ أن الخطر يُعرِّي الفطرة لبارئها وأهوال الحرب تفتح القلب للاتصال بخالقه، وهنا وفي حرارة المحنة ومرارة التجربة تسخن النفس فتصبح مطاوعة لينة تستجيب للأوامر، كالحديد إذا سخن يصبح مطاوعاً.

فالجهاد يصقل النفس، ويخلص الروح من أوشابها، ويملأ الجهاد الحس البشري بالرهبة والروعة كما يملؤه بالحذر واليقظة، ويملأ النفس البشرية بالتوجس والتوقع للموت في كل لحظة ليخرجوا من الغفلة التي ينشئها الرخاء والنعمة.

حادي عشر: وتعلمت أن الجهاد هو أكبر عامل لتوحيد الأمة الإسلامية، ولم شتاتها وجمع شعثها، فلا توجد قضية في الأرض الآن تشد أعصاب الأمة وتستحوذ على اهتماماتها أكثر من الجهاد، وهذا ألاحظه من خلال الرسائل الكثيرة التي ترد إلينا من كل مكان في الأرض.

ثاني عشر: وتعلمت أنَّ القيادة والمسؤولية لا بد أن تسلم للمخلصين الصادقين، فهؤلاء هم صمام الأمان لصيانة أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم.

ثالث عشر: وأدركت من الجهاد أنَّ التربية ضرورة ماسة قبل حمل السلاح، وإلا فإن الذين يحملون السلاح دون تربية يصبحون كالعصابات المسلحة تؤرق أجفان الناس وتهدد أمنهم وتروعهم ليل نهار، وأنت تدرك هذا عند المقارنة بين قائدين في جبهات القتال، أحدهما تربى في الحركة الإسلامية والآخر لم يتلق التربية، فتجد الناس جد مرتاحين في منطقة الأول، وأما الثاني فشكوى الناس لا تنقطع عنه.

رابع عشر: وتعلمت أنَّ الصبر عمود الجهاد، بل رأس هذا الدين ولا جهاد بلا صبر، وبإمكانك أن تدرك هذا من الذين أمضوا عشر سنوات في الجهاد مع الجوع والعري والمرض.

خامس عشر: علمني الجهاد أن الهالات الضخمة التي ترسم حول الدول الكبرى كأمريكا وروسيا لا تساوي شيئاً أمام قوة رب العالمين وتأكيده للمؤمنين، ومن كان في شك مما أقول: فليسأل الروس عن هلعهم ورعبهم من المجاهدين ..

لقد بدد الجهاد أسطورة روسيا

 


[1] ) موسوعة الذخائر العظام، الجزء 2، صفحة 99 - 101.

[2] ) سورة آل عمران (145).

[3] ) سورة الذاريات (22).

[4] ) آل عمران (139).

[5] ) الترمذي برقم (٢٣٢١) وابن ماجه برقم (٤١١٠) وهو عن سهل ابن مساعد.

[6] ) سياف.

[7] ) الأنفال: (٢٤).

[8] ) سيد قطب بتصرف عن الظلال في تفسير سورة التوبة / الجزء الثالث ص/١٧٣٥ / طبعة الشروق.

[9] ) التوبة: (122).

[10] ) الأنفال: (29).

تعليقات الفيسبوك

كن معنا في نشر الوعي

"وتتعمّد منهجيتنا التربوية تربية صفوة كبيرة الحجم من الدعاة تتكون منها قاعدة صلبة للعمل الدعوي وتحمل أثقاله، وتصبر على طول الطريق، وتتكون منها الطبقة القيادية، ثم نحاول صناعة طبقة واسعة من الموالين للدعوة". 11

كن معنا