الإبداع يقود حَمَلة البوارق
القياس الأهم : أن تطور العلم وإن أحدثته عوامل شتى ، إلا أن إبداع المبدعين كان هو الأهم والعامل الأقوى .
أولئك الأذكياء الفلتات ، أصحاب التجرد للعلم ، الذين سكنوا المختبرات : هم الذين دفعوا العلم صعدا .
وكذلك دعوة الإسلام ، يطورها أذكياء الدعاة ، أصحاب الإبداع والاستنباط والاستنتاج والنقد والتحليل ، ليس أهل التقليد والنمطية والاستسلام للموروث والقناعة باليسير .
والتربية الدعوية مكلفة أن يكون في أولويات منهجيتها : رعاية المبدعين ، وتمكينهم من زيادة ، ورفدهم ، وتشجيعهم ، إذ هم الأمل ، وعليهم سنضع الحمل الثقيل .
لكن هذا الواجب يرخيه تطرفان متعاكسان :
إفراط يذهب به إلى أبعد من حدود التجارب ، فيدعو إلى النخبوية ، ويزهد بغير المبدعين ، وهو خطأ كبير عقدنا لبيان وجوه السلب فيه فصلاً آخر .
وتفريط يتمذهب بمذهب : سيروا بسيرة أضعفكم ، فيدعي أن في رعاية المبدع تكبراً على المحدود وإرهاقاً له ، فيميل نحو التقلل ، والهدوء ، وهو تفسير خاطئ لقول قيل لغير هذا الموضع ، فيه وأد للطموح وترغيب في العيش بين الـُحفر.
والصواب وسط ، إذ الحياة مبنية على التباين في الفضل والمقدار والمؤهلات ، ففي الأنبياء : نبي ورسول ، عليهم السلام جميعاً ، وأفضلهم محمد r ، والصحابة طبقات ، ومنهم أول ومتأخر ، وفي العلماء الفقهاء رهط تميزوا عليهم مدار الفتوى ، حتى آل الأمر إلى أربعة يلتحق بهم مقاربون ، وفي المؤمنين سابق بالخيرات ومقتصد ، وليس بدعة أن نميز وجود المبدع وندعو لرعايته ، وقد قيل في الفيزياء : أن اعتدال الحياة وانتظام حركتها راجع إلى ظاهرة انتقال الحرارة من الجسم الحار إلى البارد ، ولولا ذلك لحصلت الفوضى ، ورب متحمس يعدو بحماسته الباردين ، فتكون مسيرة شاملة لكل جحفل الخير ، وهي التي تستمر ، وعليها مدار الحياة ، بقيادة نفر قليل من الأقوياء يتنافسون في حلبة سباق ، ولإثارة حمية الاقتداء ، بمعنى : أن تسيير جموع الدعاة كلهم لأداء الهدف الدعوي هو الحال الأمثل المطلوب ، قويهم وضعيفهم ، ذكيهم والبطئ ، لكننا للوصول إلى هذه الحالة من التحريك العام لا بد من اكتشاف المبدع ، ورعايته ، وتدريبه ، وتمكينه من ممارسة إبداعه ، من أجل أن يكون قدوة للآخرين ، ووكيـلاً في التفكير التخطيطي عنهم ، ورائداً يتقدم ويسبق ويضرب المثال فيتبعه الرتل ، وبذلك تنتظم حركة الحياة.
الإبداع عطية ربانية ، إذا وجدت بذرته في القلب : فإن التربية تظهره ، ويزيد الإيمان توفيق المبدع ويضاعف صوابه .
ثم الإبداع ومضة عمرها عشر لحظة ، قد تضيع إذا لم تكن ثم منهجية تترصدها وتنتـظرها لتلتـقـطها وتخزنها وتستنبتها وتطورها إلى مشروع كامل ، أو إلى اجتهاد منقذ من حيرة ، أو حجة لمبارز في جدل ، أو أداة نافعة تختصر الزمان وتطوي المكان وترخص سعر الكلفة .
ومن هنا كانت منهجية استقبال ومضات الإبداع هي الوجه الآخر لعملة الإبداع الواحدة ، وهذه هي نقطة صلة ثانية لقضية الإبداع بقضية منهجية التربية ، لكن لأن منهجية الإبداع هي جزء من الإبداع أيضاً ، فإن ذلك يعني أنها لا يمكن أن توصف كوصفة جاهزة نسمي أبعادها ونحدد أركانها ، إذ الإبداع في أصله : خروج عن مطابقة الغير وتقليده ، ولكن يمكننا أن نقترب بالمتربي من اكتشاف طبيعة هذه المنهجية المستقبلة للإبداع ، عبر استعراض قصص المبدعين ، ورؤية تجارب مخططي المشاريع الكبيرة ومنفذيها ، ومن خلال ذلك ، تنمو قابلية معينة لدى صاحب بذرة الإبداع تعينه عبر القياس على اختيار سلوكيات محددة تجتمع لتكون هي منهجيته الخاصة في استقبال ومضات عقله هو وقلبه ، أو في اصطياد فلتات لسان وسلوك الآخرين العراة من منهجية مثيلة ، الذين لا يفطنون إلى قيمة صواب مر من اقنيتهم ، فيتلقفه صاحب المنهجية الإبداعية بسرعة ، كالسارق له ، ويضمه إلى مثيل له ، ويضيف له لوناً ، وتلميعاً ، وإطاراً ، وغلافاً ويعرضه في السوق لمن يشتري بمائة ضعف ، تماماً مثل صائغ يأخذ حجراً خاماً بأبخس الأثمان ، ثم يصقله ويتفنن فيه ويبيعه غالياً .
وهذه الحقيقة تنتقل بقضية الإبداع من مجرد كونها دائرة ضيقة يحتلها العباقرة فقط ، أصحاب اللمعات الوامضة والليزر المتمركز الكثيف ، إلى دائرة أوسع أضعافاً ، يحتلها ( صاغة الإبداع ) أو ( سراق الإبداع ) إن شئت أن تسميهم ، عن طريق منهجيات متقاربة يتخذونها لأنفسهم تمنحهم التربية الدعوية مفرداتها ومكوناتها الصغيرة المئوية العدد أو الألفية ، عبر قصص المبدعين وأخبارهم ، مسلمهم وكافرهم ، ما يكتشفه الدعاة من ذلك أو ما يقتبسونه من كتب الغربيين ، ثم يقوم كل داعية من هؤلاء الصاغة السراق بتركيب منهجية من هذه التفاصيل خاصة به وفق تصميم خاص تؤدي دور صحن هوائي ضخم يستقبل الشوارد وومضات إبداع الفطرة عند الغافلين عن أنهم من المبدعين ، وبهذه الطريقة تثري الدعوة على حساب الآخرين ، حلالاً زلالاً ، وبذلك تتضح صلة موضوع الإبداع بمنهجية التربية الدعوية : أن هذه التربية مكلفة بتدريب مجموعة الدعاة كلهم على كيفية تصميم وبناء منهجية الاصطياد الإبداعي ، فيكون أحدهم مبدعاً بالأصالة ، ويكون الآخر مبدعاً بالسرقة والاصطياد والصياغة لإبداعات غيره وتوظيفها لخدمة الخطة الدعوية ، ثم يكون غيرهما من بقية الدعاة غير مكترثين ولا أهل جد ، بل تقعد بهم قابلياتهم وهممهم عن المجاراة والإتيان بجديد ، وهم أصحاب التقليد والتنفيذ ، وليس يضير التربية الدعوية ذلك ، لأنها لا تستطيع اكتشاف الصنفين الأولين ابتداء ، فهي تبذل علمها للجميع ، ثم القدر الرباني يختار هذا وذاك ، ثم إن الخطة الدعوية تحتاج هذا المقلد أيضاً الذي سيقع عليه الثقل التنفيذي ، ثم يكون وسيلة لانتساب مبدع إلى الدعوة ، من ولد أو قريب أو مأسور إلى فضل يريد الوفاء .
وبهذا الإحساس ساهم عدد من دعاة الإسلام في رواية قـصة الإبداع للدعاة ، يقتبسون من كتب غربية ونحوها ، ويضيفون لها لمسة إيمانية وزيادة ذاتية ، كان أولهم د. هشام الطالب عبر مشاركته في معهد الفكر العالمي بواشنطن ، وتلاه د. طارق سويدان عبر مركزه في الكويت وشركة الإبداع الخليجي ، ود. علي الحـمادي عبر مـركزه في دبي ( مركز التفكير الإبداعي ) و د. محمد التكريتي عبر مركزه في بريطانيا ( مركز الفا ) ، في آخرين ، وآخر العنقود د. سليمان العلي عبر مركزه في جدة ( مركز الخبراء ) ، وكتبهم نافعة جداً للداعية العصامي الذي يستبد به الشوق لإبداع دعوي وحيوي ، وينبغي أن تنص المناهج الدعوية على الاستفادة من بعضها ، والـترويـج لبقيتها ، وأنا أنصح الدعاة باقتنائها ومطالعتها ، وإن كان في بعضها تكرار وإطالة لا ضرورة لها .
وأنا أزعم ، بناء على خبرتي بالواقع الدعوي العالمي ومعاصرتي لثلاثة أجيال دعوية متعاقبة خلال ما يقرب من خمسين سنة بحمد الله : أن الإبداع الذاتي التلقائي في محيط الدعاة لا يزيد على 3 % في أعلى تقدير وهو عندي 1 % فقط ، لكن الإبداع الذاتي المرفود الذي تفجر كوامنه التربية قد يرتفع بالنسبة إلى 10 % ، وأما الإبداع غير الذاتي الذي تتولى التربية فيه تعليم الدعاة منهجية الاصطياد والصياغة لومضات الآخرين فقد يرتفع بالنسبة إلى 30 % إذا ساعدت الحريات العامة في البلد على تكوين ظروف مساعدة وأتاحت العمل المؤسسي ، و30 % إذا صدقت فراستي هي نسبة عالية جداً تنتقل بالمعادلة الحيوية إلى حسم مفروغ منه لصالح الدعوة لا يحتاج غير مرور الزمن لتبدو آثاره ، وحركة تدخل سوق الحياة وثلث دعاتها يتمركزون في دائرة الإبداع أو يتحلقون حول محيطها هي حركة تحتكر المستقبل احتكاراً لا جدال فيه ، وستتفلت وتتملص جزماً بإذن الله من كيد الكتلة البشرية الأميركية وأن أخلت تفاوتات السلاح والعربدة الأمنية ببعض جوانب المعادلة إلى حين ٍ يقصر أو يطول ، ومثل هذه الدعوة المثلثة الحلال على مذهبي مالك وأبي حنيفة معاً هي كمثل مليونير ثري يدخل السوق يضارب فيتحول الآخرون أصحاب الُألوف إلى مجرد سماسرة له يدلونه على الفرص ، وُينصر بالرعب من مسيرة أُسبوع ، فيخلو السوق من الأقزام قبل وصوله ، ويكون سيد الموقف .
لذلك ، ولإغراء هذه الظاهرة لكل مشتاق طال صبره وضربت معاناته عمقاً : فإني أدعو جمهور الدعاة المربين في كل قطر أن يتم تركيزهم على تعليم مجموع منتسبي الدعوة أخبار الاجتهاد والإبداع والابتكار والتجديد والتحدي والمصاولة والعناد والالتفاف والانفلات والترصد والهجوم والتحديد والمبادأة في العالمين أجمعين ، فيقرأوا معهم التاريخ بهذا النفس ، ويقرأوا معهم الواقع ، ليقرأوا المستقبل .
ومثل هذه القراءات الواقعية والتاريخية تجد كتب العلوم كلها لها مصدراً ، والقانون والأدب ، والفن ، وتواريخ الحضارات والحروب ، ومناورات السياسة ، والأداء الاقتصادي ، وكذا من مصادرها : الصحف اليومية ، والمجلات الدورية ، والأفلام الوثائقية والممثلة ، وبين جدران المتاحف والجامعات ، وعلى معلمي اصطياد الإبداع وغارسي منهجيته أن يجوبوا كل هذه المصادر ويقتبسوا من أخبار الإبداع والمبدعين مائة خبر تليد وطارف كل شهر ليهدوها إلى إخوانهم الدعاة ، وعبر التراكم الكمي وفنون الإثارة واستجاشة الحماسة : ستتحرك السليقة الإبداعية عند البعض ، ثم يتحرك نهم الاصطياد عند بعض آخر ، فتكون الحصيلة الإبداعية الشاملة عالية الكثافة ، فيسهل على الدعوة أن تصنع الحياة .
اجلس بنا نؤمن بالإبداع ساعة
* ولنمكث معاً نؤمن بجدوى الإبداع ساعة كما وصفه رائد من هؤلاء المعلمين الذين بادروا إلى اكتشاف ما وراء الرابية ثم رجعوا إلى قومهم منذرين ، وهو د. علي الحمادي ، إذ ساقه إبداعه في إهداء كتبه لي إلى أن تكون روايته هي المعتمدة ، وفي كل دور أنصار الإبداع خير، ولست أُلخص كل ما كتب ، ولكن آتي ببعضه ، وأضرب المثال ، لتعرف ما هنالك .
في كتابه الأول ( شرارة الإبداع ) يبدأ د. علي سرد قصة الإبداع ، ويعرفه بأنه مزيج من الخيال والتفكير العلمي المرن ، لتطوير فكرة قديمة ، أو لإيجاد فكرة جديدة ، مهما كانت الفكرة صغيرة ، ينتج عنها إنتاج مميز غير مألوف يمكن تطبيقه واستعماله .
وهو يرى أن لا فرق بين الإبداع والابتكار ، والمقصود واحد في اللغتين العربية والإنجليزية ، وهو يورث عن الإبداع ربما ، لكن الاكتساب بالمعرفة والتدريب هو العامل الأهم فيه ، وليست الشهادة المدرسية من شروطه ، ولا كل من تفوق في الدراسة يبرز كمبدع ، وأما كلمة الاختراع فقد جعلها العرف تنحصر في إبداع تقني ينتج آلة معينة . وأما الاكتشاف فهو إظهار ما كان خفياً ، ويمكن أن يكون مرحلة من مراحل الإبداع . وكذا التخيل هو مرحلة البداية ، ومثلهما الحدس ، هو مرحلة أيضاً في الإبداع . وأما الذكاء فهو من لوازم الإبداع ولكن الإبداع ليس من حتميات الذكاء ، والخاطرة مرحلة جزئية في الإبداع ، ويقترن بها التفكير الذي هو من لوازم الإبداع . وأما الإلهام فهو ومضة تقود إلى فكرة جديدة ، وقد ينتجه حدث مثير أو عابر، وبذلك يختلف عن سلسلة العمليات الإرادية التي نتبعها للوصول إلى الإبداع .
ولحل المشاكل لابد من الإبداع ، لكن وظيفة الإبداع الإتيان بأفكار جديدة تطور العمل ، وليس بالضرورة أن تكون هـناك مشكلـة لتـفـكر تفكيراً إبداعياً ( ويشيع بعض الناس أن من مستلزمات الإبداع أن يكون المبدع فوضوياً غير منظم ، أو خيالياً بعيداً عن المنطق والتحليل العلمي ، أو مشاغباً متمرداً على القيم والمبادئ والأخلاق ، أو مبتذلاً نتن الرائحة كريه المنظر، أو ... الخ .
والحقيقة أن هذا فهم خاطئ للعملية الإبداعية ، بل هو إساءة لهذه المهارة الكريمة والمنهج السديد .
إن وجود بعض المبدعين اتصفوا بهذا الإهمال والتمرد لا يعني أن الصواب في صنيعهم هذا بل نقول : أن هؤلاء شواذ عندهم شيء من النقص ينبغي أن يستدركوه حتى يكتمل إبداعهم ويستقيم منهجهم ) .
( إن المبدع الناجح هو الذي يجمع ما بين أعمال المخ الأيمن والمخ الأيسر، بمعنى أن يجمع بين الخيال وبين التحليل العلمي المنهجي ، وكلما جمع الإنسان بين هذين الأمرين كلما كان أكثر إبداعاً وأقرب إلى التفكير الابتكاري النافع .
إن أكبر خطأ نرتكبه أن نعرف الإبداع ونحصره بالخيال فحسب ، إذ لا قيمة ولا فائدة من خيال لا يتحول إلى فكرة عملية وإنتاج نافع ، ولا يتحول الخيال إلى فكرة عملية وإنتاج نافع إلا إذا تنقل عبر مراحل علمية منهجية .
إن العلماء يخبروننا بأن هناك علاقة بين جانبي المخ الأيمن والأيسر، فعندما يتحرك الإنسان " الجانب الأيسر من المخ " فإن هذا يؤدي إلى إراحة الجانب الأيمن من المخ ، وهناك يبدأ الخيال العلمي .
لذا : إذا واجهتك مشكلة لم تستطع حلها فاتركها ، وأنشغل بأمر عضلي ، كالمشي والسباحة ، وهناك ستأتيك الأفكار الإبداعية لحل مشكلتك إن شاء الله تعالى .
خلاصة ما نريد أن نصل إليه هو : أن الإبداع عملية مهذبة سامية ، فيها خيال خصب ، وتفكير منطقي ، وعـمل منـظم ، وتحلـيل علمي ، ونظرة واقعية ، ومنهج قويم ، وأدب جم )( 1 ) .
- والتقليد عدو الإبداع اللدود ، ولذلك عابه القرآن على المشركين لما جعلوه أساس منطقهم في الشرك واعتذارهم بأنهم وجدوا آبائهم على ُأمة وأنهم على آثارهم مقتدون ، ( ولا يعني هذا الكلام عدم الاستفادة من تجارب وآراء وإبداعات الآخرين ، ولكن المقصود هو الابتعاد عن التقليد الأعمى الذي لا تراعى فيه الظروف والأحوال والأشخاص والوقت والمكان ، والذي يحد من استقلالية الإنسان ومرونته في التفكير والتأمل ) ( 2 ) .
- وكذا الروتين ( إننا مطالبون ـ إذا ما أردنا أن نبدع - أن نفكر بطريقة مرنة وجديدة غير مألوفة ، ولكننا غير مطالبين بأن نعلن حرباً ضروساً ضد كل ما هو نمطي روتيني ) . فإنك ( إذا استفدت من الروتين لتسهيل الإجراءات وتنظيم العمل ومن ثم خطوت خطوات إلى الأمام بأن طورت وغيرت فإن الروتين سيكون لك فاتحة خير ونعمة كبيرة ) . ( ولكن إن كان معيقاً للعمل ، معطلاً للإنتاج ، مضيعاً للوقت والجهد ، غير مساعد على التطور والتقدم ، فينبغي أن نتخلص منه ، وذلك بأن نعمل عقولنا ونفكر بطريقة جديدة غير مألوفة ، وهنا يكون الإبداع )( 3 ) .
- ويتحول د. علي إلى الحديث حول العقل ، الذي هو الموطن الرئيس للعملية الإبداعية ويعرفه بأنه ( المجموع الكلي المنتظم للبنيات والعمليات النفسية ، الواعية واللاواعية ، وهما ليسا بعقلين منفصلين ، ولا يعملان باستقلالية عن بعضهما البعض ، وإنما لهما وظائف منفصلة ، ولهما كذلك وظائف مترابطة ، وكلا العقلين يقومان بعمليهما بدقة وكفاءة فريدتين .
- وينقسم العقل الباطن إلى الباطن ، والباطن الخلاق .
- فالعقل الواعي : يدرك العالم من حوله ، أو الحقيقة ، من خلال الحواس ، ويحتفظ باتصال معتدل مع الواقع ، و له أربع وظائف : الإدراك ، ويظل إدراكنا ناقصا . والربط ، يربط ما ندركه بالمخـزون في العـقل الباطن . والتقويم ، بمقارنتها بالخبرات السابقة . والتقدير : باختيار الفعل المناسب .
- وأما العقل الباطن : فهو يشير إلى مجموعة العناصر الدينامية التي تتألف منها الشخصية ، وبعضها قد لا نعيه. ويتم التخزين من خلال تعبيرات كيميائية في الهيكل البروتيني لنوايا الخلايا العصبية للدماغ ، والعقل الباطن لا يقوم فقط بتسجيل الأحداث والخبرات بالتفصيل وإنما يسجل المشاعر أيضاً المصاحبة لتلك الأحداث. لذلك فإن الحقيقة كما نراها قد تكون مشوهة وغير حقيقية ومضرة بالمقارنة بتفسيرات موضوعية للحقيقة .
وبجانب التخزين يقوم العقل البـاطن بالإشراف على الوظائف الُأوتوماتيكية ، مثل دقات القلب ، وعمليات الهضم . كذلك الوظائف التي تم تعلمها ذات الصفة الُأوتوماتيكية ، مثل المشي وقيادة السيارات وجدول الضرب .
- وأما العقل الباطن الخلاق : فهو برمجة خضع لها تفكيرنا وأفعالنا استناداً إلى عادات قديمة ، بحيث يتسبب لنا توتر وضـغط نفـسي إذا طرأت خبرة جديدة ، كالانتقال لوظيفة جديدة . وتتأثر الصورة الذهنية التي نكونها عن أنفسنا بهذه الاتجاهات ، السلبي منها والإيجابي ، وعقلنا الباطن يحافظ على الحقيقة كما تصورنا ، بحيث يجعلنا نفعل دائماً مثل الشخص الذي تخيلناه أنه نحن ، أي صورتنا الذهنية عن أنفسنا ، فمن يعتقد أنه ضعيف في الحديث سيتلعثم إذا تحدث ، ولتفادي هذه السلبية : لابد من تعديل صورتنا الذهنية الذاتية عبر الحديث الذاتي الإيجابي وتعابير الثقة والتحدي ، وبذلك تعاد برمجة عقلنا الباطن الخلاق بالإيحاء .
فإذا عزمت على خوض غمار الإبداع فإن د. علي يشير عليك أولاً أن تبحث عن البدائل دائماً ، بلا مبالغة ، ثم افتح بنكاً تودع فيه البدائل والأفكار الإبداعية عن طريق تعيين هدفك بوضوح ، لتتعين الوسيلة لتحقيقه بوضوح ، ثم استفز مقدرتك الإبداعية بذكر نقيض أفكارك الأخرى ، فالطبيب مثلاً يذهب في الطريقة المناقضة إلى المريض وليس العكس ، ثم أدمج بين فكرتين ينتج استعمال ثالث لهما ، وحاور عدداً من العقلاء المتفائلين : تنقدح لك رؤى ، ثم انفرد وحلق في خيال : يأتك مزيد ، وإذا أعدت وصف المألوف أوصلتك الإعادة إلى جديد بمقدار المترادفات التي ستوسع بها المعاني الوصفية ، وتزداد هذه القابلية إذا خرجت من محيطك الذي يتكرر يومياً إلى مكان آخر وتركز التفكير هنالك بنقاط القوة والضعف والمخاطر لكل قضية ومحاولة معرفة فرص الاستدراك والتنمية ، ثم ترجع مرة أخرى لتجلس مع دعاة آخرين في لقاء ودي غير مبرمج وتطرح قضية غريبة ، فيولد الحديث العفوي عندك الأفكار ، وإذا شفع طالب الإبداع ذلك بأسئلة جزافية خارجة عن العرف والمألوف يسأل نفسه منفرداً ورد احتمال تضمن الأجوبة لأفكار واقعية ، ثم يعود إلى جلسة مع أقران في حدود العشرة يمارسون فيها العصف الذهني ، بأن يكون ديدن الجميع طرح أفكار جديدة حول قضية معينة من دون الحكم عليها ونقدها أولاً، ومن خلال الكم الكثير لها تنـبثق صفـة إمكان تطبيق بعضها ، أي يكون هدف الجلسة في مرحلتها الأولى تجميع أكبر مقدار من الأفكار، حتى تكون كثرتها مثل سيل هادر، وهذا لا يكون إلا بإطلاق حرية التفكير للجميع في جو مرح من دون اعتراض وتخطئة ، فتكون الطلاقة هي مورد الرصيد الفكري في بنك الابتكار، ثم بعد ذلك في المرحلة الثانية من الجلسة يكون النقد والتمحيص وقبول بعض المقترحات بإضافة شروط لها أو تهذيبها وإعادة صياغتها وإبعادها عن الغرابة ، وإذا كان رئيس الجلسة نبهاً سريع الاصطياد لأفكار المشاركين العفوية ويستطيع كتابتها على لوح ليراها الجميع فإن نجاح الجلسة يكون وارداً ، وبخاصة إذا ارتفع التكلف بأن يكون الجميع أقراناً أو متقاربين ليس بينهم أحد يهابونه أو يستحون منه أو ترهبهم سلطته . ثم تسند النتيجة بعصف كتابي وفق نفس القواعد ، تطلق فيه الحرية للمشاركين لكتابة أفكارهم بلا رقابة ، ثم يتم تصنيف الأفكار ، ويجتمع الجميع لتقويمها واختيار أوفقها ، ويستحسن أن تتم كتابة كل فكرة في بطاقة مستقلة ويتم خلط البطاقات وإعادة توزيعها من أجل أن يضيف آخر على فكرة البطاقة شيئاً ، وبذلك تنمو الأفكار ، ويمكن عكس الُأسلوب ، بأن يتبنى الجميع محاولة تجويد فكرة واحدة معينة عن طريق مختلف طرق التجويد ، من استبدال بعض أجزائها بما يكون أسهل أو أرخص أو أكثر قبولاً ، ومن اشتراط شروط تعصم من الغلو أو التفريط .
وعلى العموم فهذه الطرق تعني التوسع في التفكير الأفقي الذي يحاول اكتشاف أكبر كمية من البدائل ، وليس مجرد التفكير الذي يحاول التعمق في بحث قضية واحدة عبر بديل واحد أو بدائل قليلة .
- ومن الطرق الإبداعية : وضع جدول ذي حقل أفقي لعامل معين يحكم قضية معينة ، وحقل عمودي لعامل آخر يتحكم بالقضية ، فيتقاطع الحقلان ، وتكون نقاط التقاطع الكثيرة بدائل في القضية ، أو يتم رسم graph بها ، فتتضح تقـلبات القضـية ومسـيرتها وتاريخها ، مما يجعل ابتكار تطويرها أسهل ، وهذا هو الُأسلوب العلمي المشهور في تلخيص القضايا ، وقد يكون الجدول أكثر تعقيداً عبر تعدد العوامل ، فتكون البدائل أكثر عندئذ .
- ومن الطرق : الالتفاف على المألوف ، أو على ما يظن به أنه من البديهيات والمسلمات ، فيكون اللجوء إلى معايير جديدة مثلاً أو شروط جديدة طالما أنها تحـقق الهـدف المـراد ، بدلاً من الاستئسار لمعايير معينة فترة طويلة ، فيكون الهروب من القديم إلى الجديد حلاً .
- ومن الأساليب أيضاً : اختيار قضية معينة ، وتمرير خمسين اصطلاح محدد المعنى عليها باختيار عشوائي ، لنرى ما إذا كانت هناك علاقة لبعضها بالقضية ، ومن خلال ذلك تتكشف لنا أفكار وبدائل ووجوه تطويرية للقضية ، ربما .
- ومن الأساليب : النظر إلى القضية بعيون الآخرين ، فينظر الداعية إلى قضايا الدعوة بعيـون رجـال الأحـزاب المنافسة ، ورجال المخابرات ، والحاكم ، والمراسل الصحفي الأجنبي ، والجيل الصاعد ، والجيل الهرم ، ورجال الاستثمار الاقتصادي ، مثلاً ، في عشرة عيون ُأخرى ، ومن خلال افتراضه لمواقفهم وأحاسيسهم تجاه الدعوة سيكتشف الكثير من الأفكار الإبداعية التطويرية .
- ومن الأساليب : محاولة التفصيل في تنفيذ قضية جديدة من بعد وضع وصفها الإجمالي بخطوط عريضة ، وتحديد التفصيل عبر سيناريو دقيق يستعرض بدائل كثيرة للانتقاء منها .
- ومن مولدات الإبداع : الاستفزاز والإثارة ، بأن يستفز رئيس مجموعة أصحابه بأسئلة محرجة وجريئة ، من أجل أن يفوهوا بأجوبة فيها من التحدي ما يوازي نقل السؤال .
- ومن ذلك : الافتراض ، بأن تسأل : ماذا لو حصل كذا ، لأمر المعتاد ، بحيث تتخيل حصول خلاف المقصود منه أو خلاف الغرض المخصص له ، وبذلك تتوارد أفكار إبداعية عبر كثرة السؤال ، تتضاعف بإثارة سؤال : كيف يمكن ذلك ؟ أو كيف سيكون رد الفعل ، أو كيف يحقق الهدف ؟
- وحاول أن لا تكون مجرد ناقد للإبداع تستدرك على الآخرين وجوه إبداعهم وتتعود الرفض ، بل أن تكون مستدركاً بإضافة بديل للفكرة المنقودة ورأي يوازيها ويخدمها أو يحسنها .
- وأعلم أن لغات إبداعك عديدة بعضها يرفد بعضا ، فمن لغة الوصف ، إلى البصريات ووسائل الإيضاح ، إلى الإحصاء ، إلى المنطق التحليلي التعليلي ، وإلى الدغدغة العاطفية ، إلى التنظير وكشف البعد الفلسفي ، وكل ذلك مطلوب لاكتشافك جزيئة من الإبداع ، ولدفاعك عنها ، وترويجك لها .
- كذلك من الأساليب ُأسلوب المراحل المتعاقبة ، فتمر بالقضية على عشرة مفاصل : البدائل ، الإضافات ، التعديلات ، التغييرات ، التكبير، التضخيم ، التصغير، التخفيف ، اكتشاف استخدامات أخرى ، الحذف ، القلب والمعاكسة ، ثم إعادة الترتيب .
- ومن طرق اصطياد الإبداع : أن تجعل للموضوع نقطة مركزية تكتبها على ورقة ، ثم تستخرج خطوطاً مقوسة من هذا المركز كفروع يخصص كل قوس لمسألة تفصيلية ، وربما فرعت على الفرع ، ثم أربط بواسطة الأسهم بين المعاني المتقاربة أو ذات التأثير المتبادل ، ويكون لقلمك جولات يميناً ويساراً وإلى أعلى وأسفل ، مع استعمال الألوان والأشكال الهندسية والإشارات التصنيفية ، فتتكون من كل ذلك خارطة مبسوطة بين يديك تعينك عبر تكرار النظر على تثبيت صورتها في ذهنك ، وبذلك ستهجم الزيادات الإبداعية هجوماً أثناء راحتك ومشيك ونومك واستحمامك وتناول طعامك ، فتضيف فرعاً ، وتكشف علاقة ، وتخترع اصطلاحاً ، حتى يستوي الموضوع تاماً . وهذه هي طريقتي المفضلة ، وعبرها دونت جميع كتب سلسلة إحياء فقه الدعوة والمحاضرات والخطط .
فهذه خلاصة ثلاثين طريقة لتوليد الأفكار الإبداعية اقترحها د. علي في كتاب واحد من كتبه ، وأوصاك أن تتقن تقويم الأفكار الإبداعية برؤية مدى فوائدها وإيجابياتها وتخمين تقبل الآخرين لها ، وتجنب سلبياتها ، وفحص مدى الواقعية فيها ، ومقدار الإثارة ، وقد سردتها لك ببعض التصرف وأضفت كلمات . وختم علي كتابه بالإشارة إلى ما عند بعض العلماء من أن التفكير ستة أنماط : محايد ، وعاطفي ، وسلبي ، وإيجابي ، وإبداعي ، وموجه ، ولكل نمط أو نوع صفات معينة وحقول اهتمام ، فالمحايد يميل إلى تجميع المعلومات والإحصائيات دون تفسير لها أو استنتاج ، كأنه كمبيوتر . والعاطفي يهتم بالمشاعر والجوانب الإنسانية والتخمين الجزافي ، والسلبي متشائم رافض يركز على المشاكل والتجارب الفاشلة ، مع تردد وإحجام . والإيجابي متفائل مقدام مستعد للتجريب متحين للفرص منطقي طموح . والمبدع مجدد مفتش عن البدائل ديدنه التطوير ويحلق في الخيال ويستهين بالمخاطر . والموجه منهجي ُأموره مرتبة يدخل إلى مركز الموضوع مباشرة ويلخص الآراء بمهارة ويوظف الحقائق بُأسلوب منطقي ، وليس إحلال نفسك المحل الأخير بسهل ، إذ كل ميسر لما خلق له ، وهي أقدار وزعت على الناس أنماط التفكير كما وزعت الأخلاق والطبائع ، ولكن مع ذلك يمكنك التسديد والمقاربة وإجبار نفسك على حيازة ما يتوافق مع الهدف الدعوي والطبيعة الإيمانية من كل هذه الأنماط ، لعلك تصل وتغنم النمط الشمولي أو نصفه أو ثلثه ، والثلث كثير ، وبه ستصول وتجول ، وترفع وتخفض .
- وقد خرج د. الحمادي عبر كتابه ( صناعة الإبداع ) إلى تعيين صفات المبدع من بين الصفات الكثيرة لأصحاب الأنماط الستة الآنفة ، فوجده واثقاً ، مثابراً ، متأملاً ، لا يحب الروتين والخضوع لقواعد صارمة ، وله قدرة على تحمل المسؤولية ، وعلى المبادرة ، وفهم دوافع الآخـريـن ، كـما أنه واسع الُأفق ، دائم التساؤل ، ويتزن إذا انفعل ، مع فطرة تحليلية استدلالية ، وحب للتجريب ، كما أنه ينافس ويتحدى ، ويقاوم تدخل الآخرين في شأنه ، ويميل إلى التجديد ، مع حزم وإقدام وحب مخاطرة .
وخلاصة طريقك إلى صنعة الإبداع : أن تجمع أفكاراً كثيرة أولاً ، ثم تقوم بغربلتها وإلغاء السيء مها ، وأن لا تذهب في الإغراب بعيداً ، وأن تصمم على المواصلة إذا أنكر عليك المقلدون : مع تركيز على الأشياء المثيرة ، واخرج من أسر العادة ، وفكر قبل النوم ، وأمرح ، وشاور، وإذا عزمت فتوكل على الله .
- وفي التشبيه والاستعارة استفزاز لكوامن الإبداع ، ولا تحقرن من الأفكار صغيراً ، وعلى أحلام اليقظة تعويل ، والافتراض مصدر ثري ، وأعن نفسك باللعب والراحة والسباحة ، وأتخذ المبدعين أصدقاء ، وأقرأ قصص الإبداع ، وأهنأ بحياة إيمانية .
ومن الواجـب أن نخرج بالإبداع من كونه مهمة فردية يخاطب بها الداعية ، إلى مهمة مؤسسية تخاطب بها القيادة ، بأن تعتبره القيادة مورداً رئيساً للتطوير، وبأن تثق بجميع إخوانها الدعاة أنهم أهل لانتظار الإبداع منهم ، فسابق ومقتصد ، وبأن توجه العملية الإبداعية وتعقد لها الجلسات الجماعية ، مع توفير بيئة ثقافية تربوية ترفع من قيمة الإبداع وتروج له .
- ويتم تكميل هذا التوجه القيادي في ترويج الإبداع : بكبت معوقاته ، باتخاذ تربية تغرس الثقة في نفوس الدعاة وتحارب إيحاءات الشعور بالنقص والضعف ، والخوف من النقد ، وهبوط الطموح ، بل تعلمهم التحدي ، واستثمار الأوقات بما ينفع ، وشجاعة اعتناق الخواطر الواردة إذا شهد لها المنطق . وابتداء فإن المؤمن العفيف أقرب إلى أرض الإبداع بمائة مرة من فاسق منغمس في الشهوات يبذر أوقاته ويبقى ذهنه شارداً ، وينبغي أن تقنع تربيتنا الدعاة بأن الإبداع ليس صنعة العباقرة فقط ولا الشباب فقط ، ولا يحتكره الأغنياء دون فقراء ، ولا الرجال دون النساء ، ثم هو لا يحتاج مالاً ، ولا جهداً استثنائياً ، ولا ألماً ومعاناة .
وعلى المربي أن لا يزهد في إبداع تلامذته لمجرد تجربة فاشلة سجلت على أحدهم ، أو ينسبهم إلى الفضول ويظن أن الإبداع صنعة القادة فقط ، أو أن يستكبر فكرة يظنها أكبر من الجماعة ، أو يستصغر ُأخرى يظنها أصغر من الجماعة ، أو أن يستسهل تأجيل بحث الأفكار دون ضرورة ، فإن كل ذلك قاتل للإبداع .
- ومن اجتهادات د. الحمادي في منهجية الإبداع : التركيز والابتعاد عن مسببات الإزعاج . والوضوح ، بتحديد الموضوع والهدف لتتضح الوسيلة. والتقصي ، بجمع المعلومات عن تاريخ الموضوع وواقعه الحالي والتجارب المشابهة. وتوليد الأفكار الإبداعية ، باستعمال الطرق المذكورة سابقاً ، مثل العصف الذهني ، والتفكير بالمقلوب . والتنقية ، بدمج بعض الأفكار، أو إلغاء بعضها عبر التدقيق وتضييق عامل الاغراب . ثم التقويم العلمي والعاطفي ، ببحث إيجابيات الفكرة وسلبياتها ومدى إثارتها وواقعيتها ، أو انتسابها إلى نمط معين من أنماط التفكير السبعة . ثم الاختيار لأقل البدائل كلفة وخطورة وأكثرها قبولاً لدى الناس . والتهذيب ، بتزيين الفكرة وتبسيطها وخدمتها إعلامياً ، والتسويق ، باختيار الوقت المناسب وشرح مميزاتها . ثم الإنتاج أخيراً ، بأن تعهد بالفكرة إلى رجال لتنفيذها .
- ثم تحول د. علي إلى استعراض آلية الإبداع التي اقـترحها د. طارق سويدان ، ومنهجية أخرى اقترحها د. نجيب الرفاعي ، ولكني لا أرغب في اختصار رواية د. الحمادي لآرائهما ، لوجودها في مظانها الأصلية .
وانعطف د. علي ثانية نحو الحديث عن المخ ، الذي تبلغ خلاياه العصبية عشرة آلاف مليون خلية ، لها مجسات عديدة ترتبط بواسطتها فيما بينها ، فتتكون طرق كثيرة للارتباط والتفاعل ، وعلى مقدار عدد هذه الطرق تكون درجة الذكاء ، والمخ الأيمن يقوم بترتيب وإعداد الأعمال التالية : الخيال ، الألوان ، أحلام اليقظة ، الأبعاد ، الألحان ، الأصوات. بينما يقوم المخ الأيسر بترتيب أعمال : المنطق ، القوائم ، الكلمات ، الأرقام ، الترتيب ، التحليل .
ومن خصائص الذين يستعملون النصف الأيمن : تفضيل الشرح العملي ، واستخدام الصور العقلية، ومعالجة المعلومات بطريقة كلية ، وينتجون الأفكار بالحدس ، وينشغلون في أكثر من عمل في وقت واحد ، ويستطيعون الارتجال بسهولة ، ويفضلون الأفكار العامة. بينما خصائص الذين يستعملون النصف الأيسر معاكسة ، فهم يفضلون الشرح اللفظي ، ويستخدمون اللغة ، ويعالجون المعلومات بالتتالي ، وينتجون الأفكار بالمنطق ، ويركزون على عمل واحد ، ويفضلون التفاصيل .
- ومن الأهمية بمكان أن يقتنع المرء أن بإمكانه أن يكتسب مهارة الإبداع ، وأنها ليست حكراً على نفر قليل من الناس ، ولذلك يكون من المفيد استعراض بعض طرق تنمية الإبداع .
( 1 ) الإبداع بالنقش المبكر، بتعليمه في سن الطفولة ، ويشهد لهذا حديث كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه وينصرانه أو يمجسانه .
والُأسلوب التلقيني الشائع في تعليم الأطفال خطأ ، والصواب أن ندع الطفل يتوسع في الخيال ، حتى إذا كبروا : اصبحوا قادة الإبداع . ينبغي أن نساعد الطفل على التفكير الحر ، والمناقشة ، وعلى المعلم أن يطرح أسئلة تثير الاهتمام ، وينتهج ُأسلوب الجلسات المفتوحة ، وقد ذهبت بعض المدارس مذهباً جريئاً في إقرار اختيار ما يريد الطفل أن يتعلم ، ومتى يريده ، مع توفير بدائل ، في نظام تعليمي مرن ، فكانت النتيجة : تفوق التلاميذ وتحليهم بثقة عالية ، وكان من جملة الطريقة : تعليم الطفل الخيال الواسع ، فيتخيل غرفته تتوسطها حديقة ذات نافورات ، وباب المنزل على شكل عجلة قاطرة ، وكتابه على هيئة كرة ، وشمعة في قرص الشمس . وتساعد ذلك تمارين لفظية ، مثل إيراد الطفل لأكبر مقدار من الأسئلة عن الغابات ، وأسئلة عن الاستعمالات غير العادية لزجاجات المشروبات الغازية ، وقائمة بكلمات تبدأ بحرف معين . ويمكن لمجموع الدعاة أن يكسبوا المستقبل ويحققوا تفوقاً استراتيجياً عبر تنفيذ خطة سهلة لتنمية إبداع أطفالهم .
- أقول وطالما كانت التقارير تشير إلى نمو ضخم للجانب الإبداعي لهؤلاء الصغار ، فإن الدعوة مطالبة بأن ترعى ( مستقبل التربية الدعوية ) ، بأن تعتني منذ الآن بأبناء الدعاة وأبناء المؤمنين في مدارس إسلامية خاصة تنتهج منهج توسيع الخيال والتفكير الحر هذا ، لينشأ جيل مبدع بعد عشرين سنة بخدم الدعوة خدمات مميزة ويرجح ميزانها في التنافس . ويجب أن نوقن بأن التربية الدعوية تبقى دون المستوى المطلوب مهما فعلت إذا لم تتضمن منهجيتها العناية بالداعية منذ أيام طفولته ، ولسنا نتألى على الله تعالى فنزعم أننا نضمن هذا الطفـل أن يكـون داعية منذ أيام طفولته ، وإنما هي توفيقات ربانية ، لكننا ننفذ ما يتفق مع الحدس الصحيح والنظر المنطقي السليم ، فإن هؤلاء الأطفال ـ وبخاصة أبناء الدعاة والمؤمنين- إذا خضعوا لتربية إسلامية ذات توسيع للخيال وتفكير حر فإنهم مظنة أن يكونوا دعاة إذا كبروا ، ثم مبدعين ، ونبذل الجهد تحت مظلة : عسى ولعل ، مع تفاؤل يليق لهذا المقام ، ويجعل تعليم الأطفال صنعة الإبداع نقطة مميزة ظاهرة في منهجية تربيتنا الدعوية .
( 2 ) الإبداع بالأشكال : كطريقة ثانية ، وهو ُأسلوب يقوم على استخدام الأشكال والصور والرسوم المختلفة من أجل تنمية القدرة الخيالية ، وهو ُأسلوب معروف في التربية المدرسية بخاصة ، ويمكن تطويره إلى تعليم التصاميم وتنمية المقدرة على وضعها .
( 3 ) الإبداع بالمشاهدة : فإن الصور الغريبة ومشاهدة ما خلق الله تعالى من عجائب توسع المدارك الإبداعية بلا شك ، وبخاصة إذا حاول المشاهد حل ما فيها من غموض وتعقيد ، إذ أن ذلك يوسع الخيال ، فيتحرك الجانب الأيمن من المخ .
( 4 ) الإبداع بالألغاز : لأنها تنمي الخيال أيضاً ويضطر الشخص لتركيز تفكيره والخروج من النمطية .
( 5 ) الإبداع بالقصة : إذ فيها تسلية وعظة ، وسبب مساعدتها على الإبداع أن فيها من الأحداث والمواقف ما يحتاج القارئ إلى الربط بين عناصرها ، ومع تحرك العاطفة والخيال وتحليل طبائع أشخاصها ، ومن الممكن أن تتقاسم مجموعة طلاب الإبداع بطولة قصة وهمية ويترك لكل منه الحديث عن دوره في القصة ، مثل مغامرة في غابة ، أو يطلب من أحدهم اختراع قصة ويحاول البقية إضافة تفصيلات لها .
( 6 ) الإبداع بالمعايشة : عبر الصحبة لأهل الإبداع والنظر إلى سلوكهم ، ومحاورتهم .
( 7 ) الإبداع بالخطابة : إذ أن الفكرة الإبداعية الكامنة تحتاج طلاقة لفظية من قبل صاحبها لإطلاقها والتعريف بها. وهنا تنفع المترادفات والثروة اللغوية ومعرفة الفروق الدقيقة بين معاني الألفاظ .
( 8 ) الإبداع بالذاكرة : لأنه يربط بين الأحداث المختلفة الزمن ، لذلك يليق لطالب الإبداع أن ينمي ذاكرته ، بأن يذكر أحد أمامه مجموعة مشاهد ثم يطلب منه تذكرها بعدئذ .
والمخ الأيمن يقوم بتمييز الألوان والأفعال والأصوات والخيال ، ولذلك فإن تخيل طالب الإبداع للأشياء دائماً يعينه على تنمية هذا الجانب من المخ وسرعة استرجاع ما خزن فيه .
كذلك ينفع إيجاد رابط بين الاسم وشيء ملموس لتتذكره بسرعة . وكذا ترتيب الأشياء وتنظيمها ، وتنظيم الأوقات يعين جداً على تذكرها ، وأيضاً تنفع دراسة المعادلات أو النصوص قبل النوم ، إذ أن للمخ قدرة غريبة على ترسيخ معلومات ما قبل النوم أثناء النوم . ومن الواضح أن التطبيق العملي لكل شيء يطبعه في المخ ، والهدوء والمنظر الجـميل عوامل مساعدة على ذلك ، وحصر الذهن في الموضوع يجعله منطبعاً فيه ، ولذلك فإن الصلاة تساعد المبدع لأنها تدريب عملي في الخشوع وحصر الذهن في العبادة ، والتكرار يضاعف الأثر. والبلاغة والجرس الموسيقي للكلام من عوامل حفظ واستيعاب النص أو الحدث ، وإذا نسب الكلام إلى رجل مشهور أو عالم كان أرسخ في الذهن ، كما أن سلامة الجسم وإشباع الرغبات تعينان المبدع ، وكذا أن يتقصد الأوقات الجدية مثل بعد الفجر ، وهدوء الليل ، وأيام الربيع .
فهذه إشارات إلى الإبداع المنشود ، برواية د. علي الحمادي عن جيل من مدربي الإبداع ، أردناها أن تكون مثالاً فحسب ، والداعية اللبيب ينحى هذا المنحى ، إذ تبقى أرض الإبداع واسعة العرصات ، وإنما قصدنا تثبيت التوجه الإبداعي كفقرة مهمة في منهجية التربية الدعوية ، والداعية مؤهل أكثر من غيره لهذه الممارسة الإبداعية ، إذ هو العفيف النظيف البريء الجاد ، وغيره مستهلك في الدخان والخمر والمخدرات والزنا وإتباع الشهوات ، وكفى بهذا الفارق عامل تـفوق حاسـم عـلى الـمـدى البـعـيـد ، كـما أن قضية ( الاجتهاد الفقهي ) هي قضية إبداع أولاً وأخراً ، بل هو ذروة الإبداع ، لأن شعور المجتهد بالمسؤولية الُأخروية وخضوعه لضغوط التقوى يجعلانه يحتاط حين اجتهاده أشد الاحتياط ، فيعصر عقله عصراً لإيجاد مخرج من مشكلة معروضة ، وكل داعية مسلم ينفعل بجزء من انفعالات المجتهد المفتي وإن لم يكن مجتهداً ، إذ هو مهتم بأمر المسلمين ، ولذلك تحرك المشكلة أحاسيسه ، ثم يقف موقف الناقد لاجتهاد المجتهدين ويستمع لتقويمها من إخوانه الدعاة الآخرين ، فيتولد من كل ذلك نوع من التأثر بالإبداع الاجتهادي ، ومع تكرر الأيام وتكرر المشاكل والإفتاء : تتجمع هذه التأثرات فتكون كتلة من الأنماط الإبداعية ترتقي بالمستوى العام الفكري للداعية لا يملك مثلها المثقف العادي ، فتكون عامل ترجيح آخر للدعاة بعد ذاك العامل الأخلاقي الأول .
وكل قصة الإبداع هذه إنما كانت الدرس العاشر الذي نستله من القياس على منهجية الفيزياء ومنهجية العلوم بعامة ، وبها تكتمل العشارية الكاشفة لدربنا المستقبلي المستوحاة من عملية تطور الفيزياء .
نسرق العلم ونوزعه
هنا ينشأ إشكال وسؤال :
هل أن هذه المغانم العلمية تحتم أن نجعل منهجنا الدراسي الدعوي موطناً لتدريس الفيزياء والعلوم ؟
ليس ذاك ، ولكن ترويج العلم والفيزياء بخاصة له مدارج ُأخرى في الحياة الدعوية ، وليس من الصواب أن تشغل أوقات الاجتماعات الدعوية بدراسة علمية بحتة ، بل ولا يمكننا ذلك حتى لو أردنا ، وإنما هي وسائل ُأخرى عديدة لنشر الثقافة العلمية في الأوساط الدعوية بقصد تحصيل إلقاءاتها في النفوس ، وإثارتها للإبداع ، وللنمط المنهجي والتخطيطي .
- في مقدمة ذلك : أن نوجد تياراً صناعياً إسلامياً يعتمد على العلم ، وبذلك تحدث انعكاسات في النفوس من خلال الأداء ، ولذلك قصة طويلة سنفرد لها فصلاً خاصاً .
- ومنها : ترويج المطالعة العلمية في الأوساط الدعوية ، إذ يمتلك كل داعية شيئاً من الوقت الحر، يصرف بعضه للمطالعة الشرعية والفكرية ، ويخصص شيئاً للعلوم التطبيقية ، وقد تيسر ذلك بوجود كتب تبسيط العلوم والموسوعات المتنوعة .
- ومنها زيارة المتاحف العلمية والمختبرات ومراكز البحوث والمراصد الفلكية ما أمكن .
- والاختلاط بأهل العلم ، مسلمهم وكافرهم ، فإن الحماسة تدب في نفس المتعلم بلا شك .
- ومنها إقامة ندوات ومحاورات ودورات علمية في المحيط الدعوي بين آونة وُأخرى لعرض مستجدات العلم ونقد العلم بأنفاس إيمانية .
- وكذا إصدار مجلة علمية متخصصة بأنفاس إسلامية ، وربما تتعاون الأقطار على إصدارها وتتحدث عن بقية خبر فيزياء الكم والإعجاز العلمي في القرآن والسنة ، وأشياء مقاربة .
- ومثلها : مشاهدة الأشرطة العلمية كجزء من دورات التطوير الدعوي ، إذ هناك ألوف أشرطة الفيديو العلمي التي أنتجتها المؤسسات الغربية ، وكثير منها مفيد ومبسط ، ويتم تعاون في انتقاء هذه الأشرطة مع دعاة من أهل العلم يقيمون في الغرب. هذا إذا لم تبلغ الهمم المبلغ العالي الذي يستجيب لاقتراحنا لإقامة قناة ثقافية علمية فضائية عالمية إسلامية .
فكل ذلك من شأنه إيجاد توجه علمي فعال في الأوساط الدعوية ، يعين بإذن الله على تربية جديدة ، الدعوة بحاجة إلى أن تلمسها في دعاتها .
لكن يتطلب الأمر نوعاً من التوجيه القيادي المعنوي المستمر، ثم بعض التمويل المركزي للرحلات المنهجية العلمية ، وربما يحتاج الأمر أن يبرز في كل قطر مركز إسلامي علمي متخصص يرعى هذه الخطة العلمية الدعوية ويروج لها ويستثمر العطاء العالمي الموجود الذي يؤذن لكل أحد أن يغترف منه ، وسينتصب الداعية العالم رئيس هذا المركز منارة شامخة في قطره يعلم الناس أخباراً جديدة طريفة في منهجية التربية الدعوية .
وفي كل شأننا هذا ـ حين طلبنا من فيزياء الكم أن تجيرنا وتكفلنا ـ ما كنا واهمين ، وإنما سلكنا مقتفين أثر حجاج علمي رصين أبدعه الُأستاذ القدوة الـُهمام عبد الحليم خفاجي لما كان له ولإخوانه الأبرار " حوار مع الشيوعيين في أقبية السجون " نطقت حقائق الفيزياء خلاله فكشفت وهم الإلحاد . %
--------------------------------------------------------------------------------------------
( 1 ) شرارة الإبداع /57 .
تعليقات الفيسبوك