الفقه الإسفنجي .. ومعادلات العقل والعاطفة
يولع الذين يتداولون الفكر بمقارنات وترجيحات لو تأملها المتعمق الذي وصل إلى مرحلة متقدمة في تقويم الأفكار: لوجد ضعفاً في الأساس المنطقي الذي تقوم عليه هذه الافتراضات بوجود تباين وفروق تُسوغ تفضيل أحدهما على الآخر، وذلك مثل قولهم: أيهما أهم وأجدى: العلم أم العمل؟ وموطن العيب أن العلاقة يحكمها تكامل وليس التضاد.
وفي هذا السياق ترتفع أصوات هؤلاء النقاد بسؤال: أيهما نحتاج: العقل أم العاطفة؟ وذلك تبسيط للقضية موغل في العفوية، ويدل على خلل في الثقافة الشمولية، وعلى قلة البضاعة الفقهية والفكرية، ومبتدأ تفنيد هذه المقارنة الساذجة يكمن في فحوى المنّة الربانية العظيمة أنه خلق الإنسان كاملاَ، فقال عزَّ وجل:"لقد خلقنا الإنسان في أحسن التقويم"، ومن هذا التقويم الحَسَن: إيداع العاطفة فيه بعد العقل، وشحن النفس والروح بمنظومة كاملة من مشاعر الثقة والعزة والعفاف والشجاعة والطموح وإيجابيات أخرى عديدة، فكيف يمكن عزل هذه الذبذبات الوجدانية عن ومضات العقل في حركاته النابضات؟ هذا أمر غير ممكن، بل العاطفة هي المجال المحيط بالعقل إحاطة الهالة بالقمر، تغريه أن يشتغل ويتّقد ويُنتج، ولا يستطيع عقلٌ أن يقترف عملية إبداعية من دون أن تحفّزه العواطف والأشواق والإثارة المعنوية، فإذا نجح وأبدع: تستولي حالة فرح ونشوة على المبدع، من خلالها يتأسس مَدَد جديد لمخزونه العاطفي ينميه ويثريه ويوسع حجمه، فينعكس ثانية في صورة تحريك لإبداع آخر، وتستمر المتوالية العقلية العاطفية على هذا النمط، وتكون محركاً من محركات الحياة.
والدعوة الإسلامية إذا أرادت نجاح أعمالها وجهدها العظيم المبذول في الساحة: فإن عليها أن تكون واعية لهذه المعادلة الحيوية المهمة، ووعيها إنما ينعكس في عالم الواقع في صورة تكامل التخطيط وشموليته وإثراء موارده النوعية، بحيث تستطيع الخطة الإسلامية توظيف المعطيات المادية جنباً إلى جنب مع الحقائق العلمية، في ظلال المعنويات والعواطف، فالماديات مثلاً تكون في تكوين قاعدة صلبة من المؤمنين تحمل الهموم الدعوية، وفي تكاثر في الأتباع والموالين يمنحونها يداً تنفيذية وفعلاً وقدرة تغييرية، وفي مال وفير هو من لوازم استمرار القاعدة والأتباع معاً في رصد أنفسهم لعمل مشترك، ثم في اختراعات تقصّر المسافات وتقلّص الجهد والزمن، من سيارة وكومبيوتر، والحقائق العلمية مثلاً تكون في صورة توظيف الابتكارات الإدارية، فيكون هناك تنظيم دقيق وأداء مؤسسي تخصصي وتصورات للاستراتيجيات الإدارية، وأما الظلال العاطفية فتضمنها منهجيات تربوية تستثير معاني القرآن والإيمان، وتستعين بشعر الحماسة وحكمة المجربين، ثم بمنهجية إبداعية تستفز ما هو كامن سابت وتدعه ينطلق نحو المغامرة واقتحام المجهول وتوليد القديم طارفاً جديداً، وكل ذلك يعني الجمع الناجح بين مقتضيات العقل والمنح العاطفية معاً في سياق واحد.
ولأن الله تعالى قد شرّف الدعوة الإسلامية على تنوّع تنظيماتها ومدارسها أن تكون هي رأس النفيضة في الجهاد والعمل الدعوي العالمي، وأن تكون هي كتلته الرئيسة الفاعلة: فإن"الفقه الشرعي"يكون هو المرجع في تمييز الأداء والمواقف والسياسات الجهادية، والبحث الصريح يكشف عن أن العمل الدعوي بخير من هذه الناحية، وأن الدعاة في حرص تام على احترام قول الشريعة وإرشادها وتقديم قول الفقهاء، ولكن هذا الحرص لا يمنع تسرب مفاهيم خاطئة واستنتاجات مرجوحة، بسبب ضعف البضاعة الأصولية، لأن علم أصول الفقه علم فيه تقعيد ومنطق وأقيسة تعتمد على معرفة كم هائل من الفرعيات والأحكام الجزئية في أبواب الفقه كلها.
ثم الفقه الإسلامي حسّاس جداً، ومن حساسيته أنه مأسور إلى"اللغة العربية"وهي لغة ثرية كثيرة المترادفات والفنون البلاغية والآفاق المجازية الرمزية، وإذا كان المتفقه المجتهد المستنبط للأحكام غير متوسع في معرفة اللغة العربية وأساليبها فإنه سيشتط ويوغل في الإغراب، وقد ينتج من الفهم الخاطئ والاستنباط التعسفي ضرر وأذى لعباد الله إذا كانت المسألة تتعلق بأموال وأعراض وأرواح، فيهدر ما هو غالٍ، ويُستباح ما هو حرام، وهنا الإعضال والإشكال، وهنا المصيبة، وهيهات أن تعوض ذلك حسرة وندامة.
ومن أعظم القضايا الجهادية التي تحتاج فقهاً عميقاً ومعرفة باللغة وأساليب العرب في التعبير: قضية الدماء والهدم التي يلهج بها شباب أغرار يظنون أن الإسلام يأمر بالدماء والهدم والإكثار منهما في مرحلة العمل الجهادي قبل استتباب السلطة بأيادٍ إسلامية محضة، وهذا الفهم يأخذونه مما جرى في بيعة العقبة مع الأنصار وقول أبي الهيثم بن التيهان(رضي الله عنه) للنبي(صلى الله عليه وسلم) : ( إن بيننا وبين القوم حبالاً، ونحن قاطعوها، ونخشى إنِ الله أعزك وأظهرك أن ترجع إلى قومك! فتبسّم النبي(صلى الله عليه وسلم) وقال: بَلِ الدمُ الدم، والهدم الهدم: اُحارب مَن حاربتم، واُسالـمُ من سالمتم).
فتوهم المستعجلون الذين لا يفقهون مصادر اللغة العربية ومدارجها أن تكرار كلمة الدم والهدم إنما هي لإرادة التوكيد والحث، بمعنى الترغيب في إكثار إراقة الدماء، وأخذوا من ذلك نهجهم المعروف الآن بإرخاص الدماء والولع بها، وليس كذلك الأمر، فإن التكرار ليس توكيداً هنا، بل معناه في لسان العرب: (دمُكم دمي وهدمُكم هدمي، وأنتم تطلبون بدمي وأطلب بدمكم، ودمي ودمكم شيء واحد)
وفي اللسان أيضاً عن الفراء اللغوي: (العرب تُدخل الألف واللام اللتين للتعريف على الاسم فتقومان مقام الإضافة، كقول الله عز وجل: "فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى" أي: أن الجحيم مأواه(.
فما ثمّ إغراء بمزيد دماء، ولكنه الفهم الناقص، يصدم الحركة الإسلامية للحياة فتتناقص، وتسكن، بما يكون من منح المخابرات وأجهزة العدو الأمنية سبب تشنيع وتضييق، بل يجعل عامة الناس في جفلة من الجهاد، لأن تسويق فتوى الدماء البريئة هذه لا يمكن أن يكون مباشرة، وإنما يحتاج إلى خلفية أخرى من الإفتاء العقائدي تجنح نحو الحكم بالردة والكفر على المخالف في الرأي أو الذي يجتهد اجتهاداً مرناً وفق قواعد تعارض المصالح عندما يمارس السياسة، وهذا هو الذي يحدث في العراق الآن، فإن القضية العراقية معقدة غاية التعقيد، بسبب الانقسام المذهبي والافتراق القومي، وبسبب ازدواجية الغزو وكونه أميركياً وفارسياً صفوياً في آن واحد، ثم لوجود الجانب الفكري والتربوي في الصراع والتدافع وليس الجانب السياسي الاقتصادي فقط، وكل هذا التداخل والتشابك يقع في ساحة واحدة ضيقة، مما يجعل حرارة التحديات تميل بالشباب الذين لم يتعمقوا في معرفة الفقه الشرعي إلى نمط من الفهم العاطفي لأهم قضايا الاجتهاد المعاصر، وتضعف عندهم التحكيمات العقلية وتضطرب المنظومات المنطقية التي تضبط الاستنتاجات، وفي خِضم هذه الفوضى والالتباسات يدس الشيطان أنفه، ويقذف في روع فتيان الفقه الجرأة والتكبر والاعتداد والغرور، ويلهيهم عن مقتضيات التقوى والورع، فيكون الغبش، ويكون إرخاص الدماء والأعراض والأموال، وتصدر أخطر الفتاوى المصيرية.
وكان حذيفة بن اليمان(رضي الله عنه)بمنزلة الخبير بمعرفة الفتن، ولذلك نجد عنده من وصفها ما لا نجد عند غيره من الصحابة، وفي بعض أخباره ما ينطبق على واقعنا المعاصر، وكأنه يعايشنا ويتحدث عن مأساتنا ويضع يده على الجرح، ومن أبرع ذلك وأوضحه وأوعظه قوله لجندب بن عبد الله(رضي الله عنه) : (كيف تصنع إذا أتاك من الناس مثلُ الوَتِد، أو مثل الذُؤنون، يقول: اتَّبِعْني، ولا أتبعك).
والذُّؤنون: نوع من الفِطْر البري الرخو الضخم كأنه سواعد الرجال، لا طعم له، أشبه بالهِلْيَون إلا أنه كبير، تأكله الغنم، ويأكله البدو عند المجاعة فقط، وأكثره ماء.. كذا في معجم لسان العرب، أي انه إسفنجي القوام.
وقال في اللسان: (شبّهه به لصغره وحداثة سِنّه، وهو يدعو المشايخ إلى اتّباعه، أي: ما تصنع إذا أتاك رجلٌ ضالّ، وهو في نحافة جسمه كالوَتِد أو الذؤنون، لكدّه نفسَه بالعبادة، يخدعك بذلك، ويستتبعك)
وهذه هي محنة العراق هذا اليوم، وكانت وما تزال في الجزائر، واليمن، وكانت بمصر ثم اضمحلت: يأتيك مراهق مغرور، يُـكفّر الناس، ويزعم أنه أعلم من أحمد بن حنبل والشافعي، ويقول: مَن ابن تيمية؟ ويضع قاعدة في احتكار حق الاجتهاد وحق القرار السياسي ويقول: اتبعني ولا أتبعك!! وأنا القائد وأنت الجندي، وأنا الفاهم وأنت الساذج، وأنا المهتدي وأنت التائه، وأنا المخلص وأنت النفعي!!
وهذا هو الفقه الإسفنجي الشبيه لهذا الفِطر الصحراوي الفارغ الخفيف، وتعلم مدى المفارقة حين تتذكر قول الله تعالى: "إنا سَنُلقي عليك قولاً ثقيلاً"، فتقارن بين ثقل الأحكام الشرعية ورخاوة فتوى الدماء، فيتبين لك الحق وأهل الحق.
أما أهل الحق فديدنهم معروف، وفهمهم سَويٌ بحمد الله، وهم يأتمون بما روي عن رسول الله(صلى الله عليه وسلم)أنه قال: (كل مسلمٍ عن مُسلم مُحْرِمٌ: أخَوانِ نـَصيران).
قال الأزهري: (أراد أنه يَحْرُمُ على كل واحد منهما أن يؤذي صاحبه، لحُرمة الإسلام المانعة من ظُلمه)
وسند هذا الحديث حسن، ومعناه صحيح مؤيدٌ بأحاديث صحيحة كثيرة، بل وبآي القرآن، والذي نحتاجه منه أكثر: وصف المسلم أنه نصيرٌ يُنجد ويذود ويجيب النداء ويغيث ويُسرع النفرة إذا صرخ أخوه المسلم يَطلب العون منه، فكلمة(أخَوَان نـَصيران)شعار ديني وجهادي وسياسي واجتماعي جامع مانع، وهو شعار استراتيجي، وما هو بمرحلي تنقضي أوصافه، وإنما هو دائم التجدد، كثير الصُور، ولا يَسع المسلم غير هذه النصرة، وخصوصاً في المرحلة الجهادية التي تقتضي الوحدة والتلاحم وحُسن الظن وجميل الدعاء، والمجاهدون الفقهاء العقلاء سعداء، ويحشرون تحت لواء هذه"الأخوّة المتناصرة".
لكن في الطرف المقابل: يحشر الواهم الذي يسترخص الدماء تحت لواء قائده الذي يفتيه فتوى الخطأ إذا قلّده تقليداً محضاً دون تمحيص، ولم يسأل نفسه عن دلالة مخالفته إجماع فقهاء الأمة.
وفي لسان العرب: (في الحديث: يُحشر الناسُ يوم القيامة على ثـُـكَنهم، فسّره ابن الأعرابي فقال: على راياتهم ومُجْتَمعِهم على لواء صاحبهم، حكاه الهروي في الغريبين، وقيل: على راياتهم في الخير والشر(
وتلك نذارة لكل أحد من الناس، فإنه غداً في محنة: أنه يُحشر مع الزعيم الذي يمنح له ولاءه، وتحت لواء الخير أو لواء الشر، فليختر كل أحدٍ زعيمه ولواءه وحزبه، وهذا يعني أن السياسة جزء من دين الإنسان، وأنه إن كان يصوم ويرتاد المسجد فإن صلاته لا تعفيه من حسابٍ ونقاش يوم القيامة عن سلوكه السياسي، والجهاد أيضاً: جزء من دين الرجل، وهو مطالب بأن يُجاهد على ضوء الفقه وأحكام الحلال والحرام، وليس أن يكون إمّعة: يُقال له: اقتل هذا المؤمن، فيقتله دون نقاش وبحث عن الأسباب، وعما إذا كان مُرتداً حقاً أو كافراً ليحل له ذلك!!
والذي أعتقده، والطريقة التي أفهم بها"حركة الحياة": أن هذه الاختلاطات الفقهية والإغراب والشذوذ في الاجتهاد والعقيدة: كلها إنما هي فرع من الاختلاطات النفسية التي تستولي على بعض الناس، والانفتاح النفسي يُولّد الفقه الموزون والاجتهاد الصحيح، ويساعده في ذلك القلب الأبيض المليء بالأفراح وحُسن الظن، الخالي من الحسد والثأريات، وعكسه: الانغلاق النفسي: يُنتج تتبّع شواذ مسائل الفقه وقسوة الإفتاء وصرامة في تقدير الأمور ونفي الرخص والأعذار، ويعين على ذلك الحزن والإحباط والتشاؤم، وعدم ممارسة النقد التحليلي، بل الجزافي، وضعف الـمُـكنة المنطقية والقدرة العقلية، والمجاهد العاقل السوي النفس الشفاف الروح يبتسم لما حوله من قرائن ودلائل فرح المخلوقات، فيرى منظر البرق مثلاً، فيحيله إلى علاج نفسي ومصدر إمداد روحي من خلال منح هذا المنظر اللطيف بُعداً مجازياً رمزياً، فيُسلي متاعبه بذلك، ويتحول إلى حالة مرح وطموح ومجاراة لوميض البرق، ويقول كما قال الشاعر ابن مفرغ:
الريحُ تبكي شَجْوَها ** والبرقُ يضحك في الغمامة
فيدع الريح لعبوسها ولمقاتل بجنبه تعصف بروحه القسوة وطبائع الانتقام، وأما هو فينطلق مع اللمعات.
وما هذا بسرد وصفي مجرّد، ولكنه ملحظ في سياق منهجية التربية الإسلامية الدعوية: أن يحرك المجاهد الواعي الفقيه مشاعر المجاهدين من حوله، وينتشلهم من القلق وفتاوى الدماء إلى الثقة بالنفس وبالآخرين وإلى الاستبشار ورؤية جوانب الإيجاب، فإن النصر يلوح في الأفق، وذهب البكاء مع الريح.
تعليقات الفيسبوك