مقالات الراشد

أملٌ مُنتـَظر .. بعد جَثمة الإحباط

 حديث اليوم فخر جهادي تنحت منه خطوات تائهة ، وإيجاب تعكر عليه متواليةُ سلبياتٍ سُنّية ، وخبرُ دعاة وعاة رفعوا الأذان بالتكبير والتحذير فكذبهم السذّج الغافلون ، حتى إذا أحاطت المصيبة بالعراق لاذ المتضرر بالمبادر يريد منه المعجزة بعد أن خذله ، ووقف غير العراقي يتطوع بالدعاء ويمد يده بجيوبه مراراً ، يظن المكتوي السجين الذبيح أنه سيُخرج له حفنة من نقود يدبّر بها أمره ويحوّل مأساته إلى صمود واستدراك : فإذا به يُخرج منديله ليمسح به دموعاً عاطفية قذفت في قلبه معنى الاكتفاء بها عن خطط عقلانية للإصلاح والرد والعلاج ، ومع ذلك تبقى في نفس الكسير سلوة تخفف آثار المنظر ، فإن هذا العاطفي الماسح لدموعهِ أعلى ذوقاً من آخر تحدث عنه الرافعي قبل سبعين سنة في " الأيدي المتوضئة " أخرج منديله بعد تفتيش جيوبه ، فتمخط !!

˜ ولتقريب المعنى من الحقائق وإنزاله على الواقع : يكفينا أن نقول : أن الأحزاب الشيعية التي تمكنت من الاستئثار بحكم العراق في الحكومة الانتقالية برئاسة الجعفري من خلال تحالفها العتيد مع الحملة الأميركية ، ومن خلال انسحاب أهل السنة من العملية السياسية بتشجيع من هيئة العلماء وضغط من تنظيم القاعدة : استطاعت تصدير نفط قيمته عدة مليارات من الدولارات بواسطة إيران من دون تسجيله رسمياً ، وذهبت هذه المليارات إلى حساباتها الحزبية وإلى الحسابات الشخصية لقادة هذه الأحزاب وقادة ميليشيات بدر وجيش المهدي ، وبذلك حققت تفوقاً حاسماً على الجهود السنية وضمنت رصيداً مستقبلياً يضاف إلى ضمانات إيران لها ، ثم أحرقت طابقين من وزارة النفط فيهما الوثائق والحسابات ، لطمس أدلة السرقة ، ولأهل السُنة تبرعات تأتي من الخارج بالقطّارة ، وبأرقام متواضعة ، فقارن وتأمل !!

 عِقاب .. في صورة انسحاب

˜ بمقابل هذا : تحقق المقاومة الجهادية العراقية ضغطاً كبيراً على الجيش الأميركي ، وأقل منه على القوات العراقية المتعاونة مع الجهد الأميركي ، ويزداد عدد قتلى المارينز وسقوط طائرات الهليكوبتر واحتراق سيارات الهامفي ، إلى درجة أنتجت معارضة أميركية للحرب قوية تصاعدت وتيرتها خلال الأشهر الأخيرة لتشمل عدداً من كبار الجنرالات ورجال الكونغرس ، حتى انقلب عدد من القادة الذين يعتمدهم وزير الدفاع رامسفيلد عليه ، وتضاعف الإعلام الأميركي المعادي للحرب ولسياسة بوش ، واستقال رئيس المخابرات الأميركية الجديد وتبع " تنت " الأول ، ونطق وزير الخارجية السابق " باول " بما لا يرضي البيت الأبيض ، وانفضحت قصص المعلومات الخادعة التي قدمتها إيران والأحزاب الشيعية والكردية العراقية إلى الإدارة الأميركية وانكشفت سذاجة معاهد البحوث الأميركية وسطحية دوائر التخطيط فيها رغم الإمكانات الهائلة ، بل وما هو أكبر من السذاجة من خضوعها لطلبات اللوبي الصهيوني التي لا تراعي المصالح الأميركية البحتة وتوصي بما يتوافق مع خطط إسرائيل ، ونتج من كل ذلك حال بائس لسلطة الاحتلال الأميركي جعلها تفكر جدياً في ربيع 2006 بالانسحاب التام من العراق خلال سنة ، وقفاً لنزيف المارينز والخزينة الأميركية ، ويعني ذلك فشلاً تاماً لأفكار العولمة العسكرية التي أطالت التبشير أيام الغزو بعملية عالمية واسعة تتخذ من العراق موضع قَدَم أولي وتنتشر بعده في العالم الإسلامي .

˜ وهذا إيجاب بلا شك ، ونصر يُسجل للمقاومة الجهادية ، ولكن جهات متهورة في الكيان الأميركي تريد أن تحوله إلى سلب وانتقام من العراق من خلال انسحاب سريع غير منهجي ولا منضبط بجدول يتيح التدرج ومعالجة قضية الفراغ الذي سيحصل ، وذلك لأن المعادلة العراقية الداخلية مختلة اختلالاً كبيراً لصالح الأحزاب الشيعية ، بما تملك من ظهير إيراني وتفوق في النفوذ من خلال قوات وزارة الداخلية والميليشيات وبعض النفوذ في الجيش ، ثم لصالح الأحزاب الكردية العلمانية ، بما لها من قوات البيشمركه ، ونفوذها في الجيش ، وحيازتها للسلاح الثقيل الذي ورثته عن فيلقين من فيالق جيوش صدام استولت عليهما فور الانهيار الذي اقترن بالحرب ، وأما أهل السُنة فلا يملكون شيئاً من ذلك ، سوى نجدة المقاومة الجهادية لهم ، وهي نجدة قد تؤدي إلى الحفاظ على أهل السنة في ديارهم في الأنبار والموصل وأنحاء سامراء وتكريت وبعض بغداد وديالى ، ولكنها لا تؤدي إلى حكم بقية أنحاء العراق لو أرادت الجهات الأخرى في المعادلة العراقية التخلي عن وحدة العراق وتقسيمه استثماراً لحالة الفراغ التي يتيحها انسحاب أميركي سريع ، بل يصل الأمر إلى درجة أن لا تتاح إمكانية قيام فيدرالية سنية قوية بمقابل فيدرالية الأكراد القوية بنفط كركوك وغيره ، وفدرالية الجنوب الشيعية القوية بنفط الجنوب المستثمر وغير المستثمر ، وسيكون تقليم إقليم أهل السُنة ، باستيلاء الفدرالية الشيعية على البادية وما فيها من ثروات محتملة ، وإضافة الأكراد لمناطق شرق الموصل وخطوط الزاب الأعلى ونهر الزاب الأسفل وأنحاء الحويجة إلى فدراليتهم مع أنها مناطق عربية ، كما أعلن مسعود البارزاني في خارطته الرسمية لكردستان ، ويكون بعد ذلك استيلاء الأحزاب الشيعية على فدرالية مدينة بغداد المركزية التي كفلها الدستور الجديد ، وتسعى الأحزاب الشيعية اليوم من خلال تفوقها في البرلمان ونفوذها في الوزارات السيادية في الحكومة الدائمة ومخططاتها الإسكانية إلى تحقيق هجرة شيعية ضخمة من الجنوب إلى داخل مدينة بغداد بحجم يضمن أكثرية ساحقة لهم ، والضغط على أهل السُنة للهجرة من بغداد إلى المحافظات أو إلى خارج العراق ، وقد حصل ذلك بشكل واسع يدل على انهزامية قطاع كبير من أهل السُنة ، وإسرافهم في الأخذ بالرخص دون العزائم والثبات ، حتى بات من المرجح أن الفدرالية السُنية من خلال كل هذا المسلسل البائس ستكون ضعيفة اقتصادياً وخدمياً وسكانياً ، بل وهناك تخطيط لها أقسى وأظلم وأسوأ ، يتمثل في احتمال تمزيقها إلى عدة فدراليات سنية ضعيفة ، كل محافظة سنية تكون فدرالية ، وقد بدأ محافظ الموصل يدندن حول هذا المعنى ، ثم إغراء أميركا للأردن بأن تحتل الأنبار وتضيفها إلى أملاكها ، بزعم أن تنظيم القاعدة سيتمركز في خط الفرات ويكون بؤرة للإرهاب العالمي ، فإن لم يكن هذا فإن الجيوش العربية والإسلامية ستأتي بديلة عن الأميركان وتتولى تدجين المناطق السنية ، إذ هي غير قادرة على ممارسة أي ضغط على المناطق الشيعية ، بسبب الحماية الإيرانية والإمداد العسكري لهم ، ولا على الأكراد لحصانة جبال كردستان التي أرهقت جيوش صدام ومن قبله ، فتعود الجيوش المستوردة من العالمين العربي والإسلامي غير قادرة على إثبات مقدرتها وكفاءتها إلا على رؤوس أهل السُنة المساكين ، أو تضطر المقاومة لقتالهم ، فيكون نزيف الدم الإسلامي من الجانبين ، ويكون استمرار الأزمة في الديار السنية إذ غيرها يبني ويتخذ خطط إنماء وتنهال عليه المساعدات الدولية .

˜ هذا حديث إحباط في يوم تراد فيه أحاديث تشجيع وتثبيت ، لكن هذا هو الواقع بلا رتوش ، وهذه هي الأحداث المتوقعة في النظر التحليلي الواعي بلا تدليس .

بل وهناك ما هو أدهى ، فإن الجيوش الأميركية جزمت بقرار الانسحاب ، لا بتأثير ضربات المقاومة الجهادية فقط ، بل بتأثير خططها في تحجيم الطموح النووي الإيراني أيضاً ، وخبر ذلك بإيجاز : أن أميركا تريد توجيه ضربة جوية وصاروخية للبنية التحتية الإيرانية ، وربما ضربة بقنبلة نيوترونية صغيرة لمفاعل بوشهر ومواطن نووية أخرى ، وهي تخاف إن فعلت ذلك أن تتحرك الأحزاب الشيعية العراقية بحكم تحالفاتها الإستراتيجية المصيرية المذهبية مع إيران لضرب القوات الأميركية بعد أن استخدمتها لإزالة صدام وخدمتها من خلال تعاون ثلاث سنوات في مجال إرهاق أهل السُنة بسبب سُنية الجهاد العراقي ، لذلك تحرص أميركا الآن على الانسحاب من العراق لتتمكن من توجيه ضربة لإيران من دون أن تراق دماء مارينز أخرى ، وقد بدأ الدم البريطاني يُراق في البصرة وما حولها بأيادي رجال الأحزاب الشيعية بتحريك من المخابرات الإيرانية ومشاركة منها ، وذلك نذير يدل على واقعية التخوفات الأميركية من مقاومة شيعية ، هي ليست من الجهاد بشيء ، ولكنها فذلكة في خدمة المخطط الشيعي ، وتدبير لنجدة إيران ، بعدما استنفذت القيادات الشيعية أغراضها من حملتها الناجحة الذكية لتوريط أميركا في العراق .

  كُن لاعب سيرك .. لكن لا تلعب بالنار !!

˜ والبعض يشكك في جدية الخلاف الإيراني الأميركي ، ويزعم أنه تمثيلية ، وأن دلائل التعاون المشترك بينهما دهراً لا تسمح باعتقاد صدق التباين في المواقف .

ولسنا مع هذا التشكيك ، بل نرى أميركا جادة في خلافها مع إيران ، ولكنه خلاف ينحصر في قضية حيازة السلاح النووي فقط ، وأميركا يروق لها فيما عدا ذلك بقاء إيران خنجراً شيعياً في خاصرة العمل الإسلامي السني في العالم الإسلامي كله ، وفي العراق بخاصة ، والخليج وجزيرة العرب بدرجة ثانية ، حتى أن أميركا أعلنت مؤخراً عن خطتها في تقليص اعتمادها على نفط الخليج والمنطقة إلى حدود 10% فقط قبل حلول عام 2020 ، وستبقيه أداة سيطرة فقط على الصين والهند واليابان عبر الضغط والتوزيع واحتكار البيع ، وأما الاستهلاك الأميركي للنفط العربي فسيقل ويقارب الصفر .

أما استثناء السلاح النووي الإيراني ووضع أميركا لخطوطها الحمراء عليه وتحريكها لأوربا ضد إيران : فإنه استثناء لا ينبع من ذات المصالح الأميركية ، وإنما من احتمالات تشكيل هذا السلاح النووي لخطر على إسرائيل في المستقبل ، فإسرائيل لا تخاف قادة إيران الحاليين أن يستعملوا ضدها سلاحاً نووياً في وقت كان الدعم اللوجستي الإسرائيلي لإيران بالأمس القريب على أوسع نطاق أيام الحرب العراقية الإيرانية ، وإنما خوف إسرائيل كان من الجيش العراقي الذي تسود أوساطه تربية عميقة ضد الصهيونية والولاء لقضية فلسطين، ولكن إسرائيل تخاف من نزوة محتملة عند حاكم يحكم إيران في المستقبل ويريد أن يسجل بطولة ويضغط على الغرب بالتحرش بإسرائيل .

˜ ومع ذلك فهذا هو الاحتمال الأضعف ، وهو السبب الثانوي ربما ، وإنما السبب الأهم في نظرنا ولم ينتبه له كل الإعلام العربي والعالمي : أن إسرائيل تتخوف من أن يؤدي امتلاك إيران لقنبلة نووية إلى سباق تسلح في المنطقة كلها ، والمظنون أن حكام العرب أقصر باعاً من أن يسعوا إلى سلاح نووي ، وذلك بعيد ، ولكن الخطر إنما يُتوقع من تركيا مهما كانت درجة تعاونها مع أميركا وإسرائيل ، لأن تاريخ العلاقات الإيرانية الصفوية التركية العثمانية هو تاريخ عدائي تنافسي كان على طول المدى قاسياً ، ولا ينسى التركي أبداً ضرب الصفويين للجيوش العثمانية من الخلف حين اندفعت في أوربا ، ومعركة تبريز جزء من مخزن الآلام الدفين العميق ، والمصالح المؤكدة في خطط الأمن الاستراتيجي التركي توصي بالتكافؤ الحتمي مع إيران ، ولا تسمح بأي خلل لصالح إيران أبداً ، فإذا حازت إيران سلاحاً نووياً فإنه يلزم ومن باب الضرورة أن تحوزه تركيا ، بسعي ذاتي منها ، أو بمعونة أميركية ، ولا يُغني الانتماء المحتمل لتركيا للاتحاد الأوربي ، بل لابد من قوة ذاتية .

˜ ومع ذلك ، وإلى هذا الحد : فإن إسرائيل قد تبقى غير خائفة ، لأن درجة التعاون بين تركيا وإسرائيل عميقة جداً ، وتكاد تضمن ولاء جنرالات الجيش الأتاتوركي لها ، ولكن هلعها ووجلها لا من النظام الحاضر في تركيا ، وإنما من تنامي التيار الإسلامي التركي الذي ما يزال حتى الآن محدوداً وفيه من اللين ما فيه ، ولبعض رجال الحزب الحاكم الإسلامي التوجه الآن " تأول عريض " في المجال السياسي يخرجهم إلى الإغراب والالتقاء مع المصالح الأميركية ، ومع المصالح الإسرائيلية تبعاً لذلك ، وفراسة الأستاذ أربكان كانت صادقة في ذلك ، ولكن هذا التيار الإسلامي التركي مرشح للتوسع ، والصلابة ، واقتباس الوعي من التجربة ، والتوبة من اللين ، والانعتاق من السياسة المرحلية إلى التشدد في الثوابت ، ونمو التيار الإسلامي في العالم العربي سيترك آثاره الإيجابية عليه ، والصحوة الإسلامية العالمية لها تأثيرات أخرى مضافة ، مما يجعل إسرائيل تتخوف من مستقبل تسقط فيه تركيا في الحضن الإسلامي ، وعندئذ تكون قنبلتها النووية خطرة على إسرائيل ، ولأن جذرها إيراني : فإن هذا الجذر يجب أن يُقطع ، وإن كان غير ضار بمفرده ، ولكن احتمالات التوالد والسياق والعدوى والامتداد تجعله ضاراً .

فُتات للتابع .. أوفر من رغيف " دون كيشـــوت "

˜ هذا التراجع الأميركي عن خطة إطالة المكوث في العراق ، والذي سببه مزدوج يتجلى في ضغوط المقاومة وفي تجنيب الجيش الأميركي ضربة شيعية لو قصفت أميركا وإسرائيل إيران : منح إيران موقفاً متفوقاً في العراق ، فوق موقفها التعاوني القوي مع أميركا في ارض العراق منذ التصعيد للغزو الأميركي وأثناء الحرب لخلع صدام وإلى الآن ، فالتقاء المصالح ، ورغبة اللوبي الصهيوني الأميركي في تحطيم العراق وجيشه وبنيته التحتية : جعل القيادة الأميركية تغض الطرف على الأقل عن النشاط التخريبي للمخابرات الإيرانية في العراق ، من قتل كبار الضباط والطياريين بخاصة الذين آذوا إيران سابقاً ، وضماناً للجيش العراقي الجديد أن لا يكون فيه هؤلاء قادة، ومن قتل العلماء التنمويين وخبراء العلوم التطبيقية ، وقتل شيوخ العلم الشرعي من أهل السُنة ، وشيوخ العشائر ، وتجار أهل السُنة ، وطاب للثلة الأميركية المتعاونة مع إسرائيل ذلك وفسحوا المجال لإيران أن تقوم بما قامت نيابة عنهم ، ويلاحظ أن إيران كبلد نفطي قد استفادت من ارتفاع أسعار النفط ضعفين بسبب مشكلة العراق ، فحازت عشرات المليارات سنوياً مجاناً ، مما أتاح لها توظيف بعضها في إسناد نشاطها هذا في العراق وفي الصرف على الأحزاب الشيعية العراقية ، في الوقت الذي خاف فيه آل سعود من عمل مقابل، وخافت الكويت والإمارات والبحرين ، مع أن القنبلة النووية الإيرانية تشكل أكبر خطر مباشر على الخليج على المدى الاستراتيجي ، وان النفوذ الإيراني المتعاظم في العراق الذي هو بـوابة العـالم العربي يشـكل عنـصر تنـغيص دائـم على جمــيع بلاد العرب القـريـبة منه ، وكان وعي ملك الأردن لخـطر " الهلال الشيعي " جيداً ، ولكنه أحجم عن إسناد وعيه بفعل وعمل وخطة ، وحرفته تقارير مخابراته التي تتوهم الخطر في تنظيم القاعدة عن مجابهة الاختراق الإيراني ، مع أن مخاطر القاعدة ثانوية وآنية بالنسبة إلى الخطر الإيراني الذي يستند إلى التشنج الصفوي القديم قبل خمسمائة سنة ، وترشحه حالة الانكفاء الأميركي المتوقعة إلى أن يكون طويل الجثمة إن لم يكن دائماً ، وكل ذلك يُفسر نظرتنا التي كررناها في جعل الغزو الإيراني للعراق أكبر وأخطر من الغزو الأميركي ، وأغلب دعاة الإسلام في العالم لا يستوعبون ذلك ، وتخدعهم الدعاية الإيرانية ، وهم يصدرون عن وهم التقريب بين المذاهب ، ودعاوى الوحدة الإسلامية ، وإنكار إيران لما يُنسب لها ، استعمالاً لمبدأ التقية ، إذ " خنجر  قُم " يعمل عمله من تحت الرداء طعناً في خاصرة العرب : " العراق " ، وما لا نقوله أكبر، فمن ذا الذي خارج العراق يُصدقنا لو قلنا : إن القتل على الهوية بلغ أن يذهب المؤمنون لصلاة الفجر ليشاهدوا جثث خمسة عشر شهيداً لشباب يجمعهم اسم " عُمر " ، وفي مكان آخر يجمعهم اسم " عثمان " ؟! ولكن ذلك حَدث .. أو أن الأستاذ الجامعي يرفض ترشيح اسم كل طالب اسمه " عمر " ، أو " عبد الرحمن " !! أو أن المدرس في الثانوية يحرم كل عمر من فرصة النجاح !! ولكن ذلك حصل ، وكل " عائشة " نالها تعب مماثل في المدارس ودواوين الحكومة .

 التخريج الشرعي والواقعي .. ينــفي الشبهة الزرقاء

˜ هذا الحال الشيعي المنتعش المنتفش الذي أجاد بمهارة استخدام قوتي أميركا وإيران معاً : هو الذي يفسر اضطرار معظم قيادات أهل السُنة للموافقة على " المشاركة في العملية السياسية "، وبخاصة نظرية " الحزب الإسلامي العراقي " في العمل ، وتلك هي الخلفية النفسية التي أحاطت برجاله وجعلتهم يجزمون بصواب هذه المشاركة وأنها الحل الواقعي المؤكد لأزمة أهل السُنة أمام تنامي السطوة الشيعية ، وتأسس من خلال المحاورات والجدل والنشاط الفكري والإعلامي للحزب منطق كامل يستدل بالأحداث الجارية والنصوص الشرعية ، واُثيرت محاكمات فقهية من مكامنها في كتب العز بن عبد السلام وابن تيمية وابن القيم والشاطبي تشرح معاني الضرورات وتعرض الآفاق الفسيحة الممتدة لاجتهادات المصالح وسد الذرائع ، وحصل تقعيد واستلهام للتاريخ ، مع إنزال كل ذلك على واقع المرحلة في العراق من خلال إحصاء ودراسات ميدانية أظهرت صدق الحزب في توجهه السياسي ، ودِقّة القول الاستنتاجي الذي تفرضه وصايا ومنهجيات علم التخطيط ومعادلات اتخاذ المواقف ، والذي أتاح ذلك أن الحزب قوة تنظيمية منتشرة في جميع العراق تعمل وفق طريقة متطورة تستثمر ثقافات متقدمة تملكها جمهرة أعضائه وخبرة عريقة ترسخت لدى كتلته القيادية عموماً ، فجاءت خطة المشاركة السياسية أبلغ وأصوب من مقاطعة شاملة صمّاء صلبة مالت إليها هيئة علماء المسلمين ، واتهامات وتخوينات سارعت إليها عناصر تنظيم القاعدة والبعض القليل من فصائل المقاومة العراقية ، وجاء رفض هذه الجهات مستنداً إلى قول تعميمي يرى حرمة الممارسة السياسية في ظل الاحتلال ، وذلك أصل تدل عليه الأحكام الشرعية الصريحة ليس لذي تقوى أن يجادل في صحته ، ولكن الحالة العراقية حالة فريدة يحكمها الانقسام المذهبي والعرقي ، والمنافس قد استثمر بنجاح وما زال يستثمر مظلة الاحتلال لتحقيق تفوق مرشح للديمومة لأجيال من خلال تقنينه لتفوقه وتضمينه الدستور وامتلاك زمام الإدارة والقوى المسلحة وإسناده بالمال والنفوذ الإعلامي والعلاقات الإقليمية والدولية .

إن العراق ينفرد بوضع خاص، وفيه انقسام مذهبي وعرقي، فإذا لم نشارك سياسياً فإن الطرف الآخر سيستأثر بكل الموجود ويستبد ويوظف الإمكانات الحكومية وأجهزة الجيش والشرطة والمخابرات لضربنا وضرب عموم أهل السنة، وهذا الذي حدث فعلاً حين حصل غيابنا، وتحولت ميليشيات الأحزاب إلى كتائب عسكرية حكومية تضربنا تحت غطاء القانون، وبتأييد من الأميركان، ونحن نعلم أن المقاطعة هي حكم أصلي ولكن المشاركة في مثل هذه الأوضاع العراقية إنما هي استثناء تبيحه أحكام الضرورات والمصالح، وهذا هو التخريج الفقهي الذي استندنا إليه، وفقه الواقع غير فقه الخيال والمثال، والمُعذّب الذي توجع رأسه الضربات له نمط من التفكير يخالف تفكير الرافل في الحرية، جزماً.

 وندعو المستغرب إلى أن يأتي إلى العراق ثلاثة أيام ويعيش تحت أثقال أخبار الأجساد المكوية بالجمر، المقطوعة الرؤوس، المثقوبة بالمثاقب الكهربائية، المتهرئة بآثار الأحماض والنايترك أسِد: ليدرك مدى الوطأة التي يئن تحت عنفها أحرار العراق وتكون خلفية لإفتاء المفتي، والفقهاء الذين علمونا أحكام التعفف السياسي الشرعي والاستعلاء على الكافر المحتل هم أنفسهم الذين أفتونا بمراعاة فقه الضرورات والمصالح وتجويز المشاركة السياسية ، ولذلك أيدت جهتان هذه الخطة في الممارسة البرلمانية ثم الحكومية : المقاومة العراقية الجهادية النقية الجادة بفصائلها الكبيرة القوية ، وهي : كتائب العشرين ، والجيش الإسلامي ، وكتائب صلاح الدين ، وجيش المجاهدين، مع فصائل عديدة أصغر ، وسبب تفهمها للخطة السياسية أنها منظمات عراقية صميمة تفهم الواقع العراقي والمعادلات الصعبة القومية والمذهبية ، لا كمثل قيادات القاعدة الغريبة التي لا تفهم خصوصيات المجتمع العراقي ... والجهة الثانية المؤيدة للعملية السياسية : عامة جمهور أهل السُنة ، حتى في مثل الفلوجة التي أرهقها العدوان الأميركي عليها ، ومعظم أئمة المساجد وخطباء الجمعة ، وشيوخ العشائر ، والطبقة المثقفة ، ودليل ذلك سعة المشاركة في عملية الانتخابات البرلمانية ، وحصول انتعاش للحزب الإسلامي والتفاف جماهيري أوسع من السابق وارتفاع سمعة قيادته ، ودخول جهات سنية أخرى معه في حلف عبر " جبهة التوافق "، وازدياد القبول لقناة " بغداد " الفضائية وصيرورتها المصدر الإعلامي الأول لأهل السُنة ولدى المتعاطفين مع القضية العراقية في العالم العربي ، ووصل أمر إذاعة " دار السلام " التابعة للحزب إلى أن تكون إذاعة شعبية دخلت كل بيت ومقهى ، وصارت المفضلة عند كل سائق حافلة وسيارة اُجرة يُسمعها لركاب سيارته .

˜ وليس من شرط صواب خطة الحزب العصمة ، فإنها لا تنبغي لبَشَر ، ولكن نسدد ونقارب ، ومن الخطأ نتعلم الصواب ، وكان صدام قد عزل الجميع عن الممارسة الحزبية والسياسية ، فضمرت الخبرة العملية لدى أغلب العراقيين ، إلا عند من استقل ورعته أميركا، كالأحزاب الكردية ، أو ارتبط بالخطتين الأميركية والإيرانية ، فكفلتا له الخبرة والنصيحة ، وبقيت القيادات السنية تتلفت وتلوذ بعفافها وتستنجد بفطرتها الإيمانية وعطايا النفس الجهادية الاستعلائية ذات المعاني السامية ، والإيمان يزيد وينقص ، فيزيد وعيها أيضاً ، بالبركة، وينقص ، ولحكمة يريدها الله ويمتحن بها عباده ليصفيهم ، ومن خلال معاناة التردد بين الاجتهادات حصل خطأ الموافقة على الدستور بوعد تعديله ، وأخطاء قبله تم الاستدراك عليها ، ولا يستحسن الحكماء إرهاق المخطئ باللوم ، حتى ليكاد يستهلك نفسه ومعنوياته ، ولكنهم يوصون المنكبح أن يقوم ويستأنف ويصارع قَدَر السوء بقَدَر خير ، ورايات المؤمنين لا تحركها نفخات ، ولكنها ترفرف بريحٍ طيبةٍ ، من الله هبوبُها ، يُسندها استغفار ونفحات ، وسلوة الجميع أن قلوب الرهط الذي يقود : نقية ، والنوايا صحيحة ، والوعي منحة ، والمبالغة في السجود والذلة إلى الله : تجلب العزة وفقه المواقف .

المعاني الواســـعة لـــعملـية المشاركة السياسية

˜ ومن خلال المحاورات ومحاولات تفهيم الناس : نكاد نكتشف أن تردد معظم المعترضين على العملية السياسية إنما حصل من تصور ضيق لمعناها ومداها وآفاقها ومجالاتها ، ولا يلحظون آثارها الإستراتيجية البعيدة ، ويظنون أنها عملية حصول على مناصب وزارية فقط ، وليس كذلك الأمر ، بل هو أعمق واشمل وأوسع ، فإن عنوان " المشاركة السياسية " إنما هو إيجاز لسلسلة طويلة مترابطة من الأعمال ، تبدأ بالدستور ، وقد فشلنا في تحقيق تأثير في صياغته حتى الآن ، ونجح المنافس وأدخل مشروعه فيه ، وهناك أمل تعديل ليس بقوي ، ولكن ما بعد هذه الحلقة من السلسلة إنما هي حلقات كثيرة نبذل وسعنا في تحقيق أقصى المصالح فيها ، بدأت بدخول الانتخابات البرلمانية ، وقد شابها تزوير ، ولكن صرنا شركاء في البرلمان ونستطيع الاعتراض وإبلاغ مطالبنا ، وسيكون لنا مجال التأثير في صياغة عشرات القوانين المهمة التي تحدد الحقوق وشكل الدولة وصلاحيات الوزارات ، ووجودنا البرلماني سيؤثر في اتخاذ المواقف السياسية المهمة ، والمعاهدات السياسية والدفاعية والاقتصادية ، والاتفاقات الدولية ، والعلاقات بهيئة الأمم والمنظمات العربية والإسلامية وأشكال التعاون مع الدول ، والعلاقات بهيئة الأمم والمنظمات العربية والإسلامية وأشكال التعاون مع الدول ، ومن حلقات المشاركة : حيازة بعض النفوذ في المواقع الرئاسية للدولة، وبعض الوزارات ، ندرأ من خلالها ضرراً ونجلب مصلحة ، ونقلل درجة احتكار المنافس لها ، وأهم من الوظائف المدنية : تحقيق حضور في القوات المسلحة التي هي مستند كل حاكم يريد أن ينفرد ، فقد تحقق وسيتحقق وجود سني يمنع استخدام المنافس للقوة المسلحة ضدهم كما حصل في الفترة الانتقالية ، مع رقابة على ذلك مهما كانت منقوصة ، وأكثر المعترضين لا يرون هذه الميزات ويظنون أن المنتسب السني للقوات المسلحة ستستخدمه أميركا لضرب المقاومة ، ولا يرون احتمالات تفلّته من ذلك ، ودفاعه عن أهله ، ثم حصلت مشاركة سنية في مجلس الأمن الاستراتيجي العراقي ، وهيئات أمنية أخرى ، من خلالها سيتحقق توازن في الحالة الأمنية العامة وأحوال المعتقلين والسجناء وتقليل المداهمات وتفتيش البيوت وإقلاق القرى والبيوت السنية ، كالذي حصل سابقاً ، ثم ستتحقق مشاركة في هيئات عامة حكومية مهمة تبلغ قرابة العشرين هيئة ، وهي غير الوزارات المعروفة ، مثل البنك المركزي ، وديوان الرقابة المالية ، ومجلس القضاء الأعلى ، والهيئة العليا للانتخابات، وهيئة اجتثاث البعث ، وأكثر المعترضين لا يعلمون خبر هذه الهيئات والمؤسسات وأدوارها المهمة ، ومن أهمها : هيئة تحقيق التوازن الوظيفي والحقوقي والمالي في الوزارات ومرافق الدولة والمؤسسات والجامعات ، بحيث تتعادل مشاركات العرب والأكراد والشيعة والسنة والأقليات تبعاً للأعداد النسبية لهم ، حتى في القوات المسلحة والشرطة وحيازة البعثات والمنح المالية والأعمال التنموية ، بحيث لا يحصل احتكار فئة لهذه الميزات دون الآخرين، وهذه قضية مهمة ، ثم في الاتفاق أن تكون الوظائف الكبرى مشمولة بذلك ، من وكلاء الوزارات والمدراء والعمادات والسفارات والقنصليات ، وتنتظرها فرص لتعيين عدد كبير من أهل السُنة في هذه الدرجات الوظيفية العليا بهم يتحقق التوازن في الدولة ، وكل ذلك سيتيح مقدرة وكفاية لتأسيس الفدرالية السنية إذا أسسها الآخرون واضطررنا لذلك ، وجعلها قوية وموحدة وليست عدة فدراليات سنية ضعيفة ، وهذا مكسب لا نسعى له ، لأننا نؤمن بوحدة العراق ومركزية الحكومة ، ولكنها خطوة قد تكون اضطرارية إذا لجأ غيرنا إلى الاعتصام بفدراليات خاصة بهم ، إذ ليس من المعقول آنذاك أن نبقى تحت حكم واستبداد الآخرين الذين بدرت منهم سوابق ظالمة لنا ، ثم في العملية السياسية فوق ذلك : ممارسة إعلامية حُرة نحتاجها لإبلاغ صوت أهل السُنة ، وتنظيم حزبي علني قانوني يستفيد من المعطيات المتاحة لحشد أهل السُنة وتثقيفهم سياسياً وتنموياً وأمنياً ، وسلسلة لا آخر لها من تأسيس جمعيات المجتمع المدني ، من ثقافية وإغاثية وتعليمية وصحية ، لرفع المستويات والمشاركات الشعبية ، مع مجال للاستثمار والتجارة ، وتنمية الحركة النسوية ، وتربية الأطفال ، ورعاية الشباب والجيل الصاعد ، وتحصيل المنافع الخدمية عبر سلسلة طويلة من المجالس البلدية واللجان، وتحصيل حقوق الشهداء والمساجين والمتضررين ، ثم حصول الخبرة السياسية والإدارية لألوف من رجال ونساء أهل السُنة من خلال كونهم وزراء ووكلاء ومدراء ونواب برلمان وأعضاء مجالس بلدية وسفراء وضباط جيش وشرطة ، بهم وبخبرتهم : تتعادل الحياة في المناطق السُنية وتتحقق المصالح المعاشية وتُصان الدماء والأعراض والأموال ، وكل ذلك إنما هو من الميزات التي تتيحها المشاركة السياسية وتقلل منها المقاطعة إلى درجة كبيرة ، والماهر الذكي يستطيع أن يُحقق نوعاً من التوازي بين العمل السياسي وأداء جهادي قائم لم يزهد به أحد ونفخر به ونبرأ من مضاددة له ، ولو أن عقلاء أهل السُنة تأملوا جميع هذه العطايا التي تتيحها خُطة المشاركة السياسية المتوازية مع الخطوط الجهادية : لأدركوا أن نظرية العمل السياسي إنما هي جهاد أيضاً ، وضرورة مرحلية ، واحتياط مستقبلي، وتدبير استراتيجي يلحظ الغد والتبعات والضرائب الفادحة للعزلة ، والاستعمار الأميركي راحل، وتبقى أصالة العراق ، وحتى العنفوان الطائفي : ربما تهذبه أعمالنا التربوية والفكرية والإعلامية ، لأنه نشأ في المجال المغلق ، وحياة الانفتاح العصرية ضده ، وقد تنحت منه بتدريج ، والاستقرار السياسي ربما يولد استقراراً نفسياً ومحاكمات عقلية وأساليب منطقية تميل بالتوتر إلى تعايش ، وبالصدود إلى محاورة ، وبالحياة العراقية كلها إلى استرسال في رحاب الفطرة إذا انكفأت إيران ورحلت أميركا ، وليس ذلك على الله ببعيد ، وهو عنصر الأمل الواعد بمقابل الصورة الإحباطية الأولى ، وهذا أمر تَلزمه خطة دعوية إسلامية شمولية وسطية ذات أنفاس طويلة ورؤى إستراتيجية المدى ، وهو الشيء الذي ينقص أهل السُنة في العراق ، ويوجب على الحزب الإسلامي العراقي أن ينتبه إليه في غمرة كثافة أعماله اليومية السياسية ، ولو أن أهل السُنة وجنود تنظيم القاعدة أنصفوا أنفسهم ورعوا مستقبلهم لأدركوا أن بداية إصلاح حالهم وحال العراق إنما تكمن في انتمائهم إلى صفوف الدعوة الإسلامية ، والحزب الإسلامي جزء منها ، مع الالتزام بمنهجية تربوية وفكرية وعقيدية تصحح لهم ممارساتهم وتكمل لهم مفاخرهم الجهادية بمكملات تجودها وتضمن توازنها واعتدالها وتتيح وتيرة إنتاجية لها تستدرك على النقص وتستكمل المصالح ، والكلام يصدق على الأحزاب الشيعية وعامة عناصر المجتمع الشيعي العراقي أيضاً : أن تعتدل ، وتترك سياسة الاغتيال ، وتطلب التعايش السلمي ، وتفاصل إيران وخططها ، وتستقل ، وتتحاور مع الجهد الدعوي المقابل ، ثم لعل الله يقذف في قلوب الأكراد معنى الأخوة الإيمانية الإسلامية والروح العراقية بدل التصعيد القومي ، ليتم أمر العراق ، وليس لنا من خلاف معهم غير ذلك .

 الأســـارير البيضــــاء أحســــمُ من الأسرار الســــوداء

˜ وهذه اُمنيات نعلم أنها بعيدة ، وتثير ابتسامة استخفاف لدى من يُراقب الساحة العراقية ، ونحن أول من يعجب لهذا الجزاف ، لما نرى من غليان القلوب ومن الاحتكام إلى لغة العنف وسلاح الميليشيات ، ولكننا نتحدث عن تغيّر يمكن أن يطرأ بعد جيل كامل ، بل وجيلين ، لأن الحياة المدنية العصرية فيها شيوع ثقافة واختلاط وحوار وغزو فضائيات وكثافة انترنيت ، وكل ذلك ضد " الدائرة المغلقة " الـمُحكمة الإغلاق المنعزلة التي أتاحت سابقاً انفراد قادة التشيع الدينيين والسياسيين بجمهورهم ، فلم يسمع غير قولهم ووصفهم ، والانفتاح المتزايد سيجلب تفكيراً متزايداً ، وتساؤلات ، وعمليات نقد ومقارنة ومقايسة ، ويتطور الأمر إلى نقاش واعتراض ، وتجربة نمو الفكر اليساري في البيئة الشيعية دليل على صدق التوقع ، وضعف المنطق الاستدلالي في الدوائر العلمية الشيعية يوحي بتمرد عقلاني يفرض نفسه في أوساط المثقفين غداً، كما كان الأمر في إيران من هبوط نظرية الخمينية بعد تحليقها ، فهي لم تمكث في أذهان الناس غير عشر سنوات ، ثم بدأ خطها البياني ينحدر ، والحركة الإصلاحية الإيرانية كما كانت سياسية : كانت فكرية فقهية نفسية ، وغلواء " قُم " تتعرض لتشريح في الجامعات الإيرانية وأوساط الخريجين والتكنوقراط ، وتزداد هذه التوقعات قوة إذا علمنا أن النفوذ الشيعي العراقي السياسي الحالي إنما يعتمد بالدرجة الأولى على الطبقة الفقيرة المسحوقة الاُمية التي تشكل الجمهور الأعظم من سكان المحافظات الجنوبية ، فولاؤها مطلق للزعامات الشيعية السياسية ، لا لضعف قدرة المحاورة والنقاش فقط ، بل للرهق النفسي الذي تعيش فيه ولا تشعر به ، واليأس المدمر ، والإحباط المتراكم الموروث عن الآباء جيلاً بعد جيل ، لأن المحيط يفتقد " الطبقة الاجتماعية الوسطى " التي يتعادل بوجودها سياق الأداء الاجتماعي والسياسي والنفسي ، فالطبقة المسحوقة الدنيا لم يكن أمامها على المدى التاريخي الماضي سوى الطبقة العليا ، من بين حاكم وإقطاعي وتاجر متمول وعالم شرعي يحرص على نصيبه في خُمس مال الكادحين ، وهي حالة واضحة في تحليلات الدكتور علي الوردي ، أستاذ علم الاجتماع المعروف ، الذي كان يمثل أحد طلائع النهضة الشيعية العراقية الحديثة ، وما زالت هذه الظاهرة مستمرة بشكل ما ، وهذا الفقدان للطبقة الوسطى يجعل الفقير المعدم يائساً من الارتقاء بحاله ، لأن صعوده إلى المستوى الأعلى صعب ، بل مستحيل ، فيخنع ويرضى بقسمته ويتنازل عن حق النقاش والحوار ، بينما لو كانت الطبقة الوسطى موجودة فإن نقلته لها وصعوده إلى مستواها يكون يسيراً مُتصوَّراً ، فيسعى لذلك ويدأب ، ثم إذا صار متوسطاً : تلمح له إمكانية نقلة ثانية ليكون قيادياً وضمن الطبقة العليا ، فيتكرر سعيه أو سعي أولاده على الأقل ، ولكن وجود الطبقتين فقط يقذف في قلب المسحوق مزيد إحباط يلقنه لأولاده ، وفي قلب المتنفذ مزيد تكبّر وسلطوية وكبت ، واليوم تفتح الحياة العصرية أوسع الأبواب لنشوء الطبقة الوسطى في الجنوب ، وستنشأ معها فنون منطق عقيدي وفكري وسياسي جديد يعترض على المخططات الدموية للأحزاب الشيعية الحالية ، وعلى الزعامات نفسها ، وسيساعد على هذا التحول أن طبيعة أمة العرب أنها " أمة نَصّيّة " تلوذ بالنصوص المروية وتقلل نقاشها لها ، لأن عرب الجاهلية كانوا اُمة لا فلسفة لها وتحكمها بقايا الحنيفية الإبراهيمية ، بينما الفرس اُمة فلسفية كلامية عقلية ، ورثت ذلك من الزرادشتية ، ونمو التيار العقلي اليوم في إيران ضد مقولات قُم : سيكون له أثر وتصدير إلى العراق ، فيقتدي الجيل الشيعي العراقي القادم به ، وتكون حيصة ، تنفجر ، لتستقر الحياة العراقية بعدها وينفتح مجال الحوار السني الشيعي الهادئ ، والتباين الطبقي الذي أسلفنا خبره كان له مثيل في الكويت والإمارات وعموم الخليج ، وكانت طبقة الأمراء وتجار[w1]  اللؤلؤ تقابلها طبقة الغواصين والكادحين المسحوقة الخانعة ، فلما صار إنتاج النفط : نشأت طبقة وسطى عبر التعليم وتوزيع الأموال ومظاهر التنمية ، وبدأت عناصر الطبقة الجديدة تناقش وتطالب الشيوخ بحُريّات وحقوق ، ولمن يتوغل في التأمل والرصد مزيد فراسة تنبيه عن أوصاف جيل شيعي لاحق في العراق يختلف بإذن الله عما تريده خطط المصادمة وخطط التوظيف الصفوي لطاقاته .

˜ وإذا كان الأمر كذلك ، وينفتح باب هذا الأمل المستقبلي لتخفيف جثمة الغلو والتطرف الحالية : فإن المنطق يهدي إلى أن تكون المشاركة السياسية هي الوسيلة التي تؤدي إلى الهدوء الموصل إلى الحوار والتفهيم والتبدل النفسي .

ولن نزعم أن ذلك يكون سهلاً ، ولا يراد لهذه المشاركة أن تكون داجنة تعوّل على هذا الاحتمال التحليلي فقط ، بل يلزم أن تكون صلبة حافظة للحقوق وتلوذ بالعزة الإيمانية ، لأننا أبناء يومنا هذا ، وهذا اليوم نحن في موقف المظلوم المعتدى عليه ، وقد أسرف المقابل في القتل والتعكير ، وحَرَمنا من الفرص ، واستبدّ بنا تحت مظلة الاحتلال وبردف من إيران ، ولابد من أن تسلك المشاركة السياسية سلوك الندّ للندّ ، وان تمثل أماني الناس ومطالبهم العادلة ، والمقاومة الجهادية رديف لها في ذلك ونصير بحول الله ، ولكن حال التوتر يرهق الشعوب إذا طال أمده، فنـتخذ من المشاركة وسيلة لتأسيس الحوار والنقد وانتظار نضوج الجيل الجديد المنفتح الذي يمكن أن يستجيب لنداء الإيمان ويتفهم مصلحته ومصالح الآخرين ، ويعزل القيادات المتطرفة المنغلقة ، ومثل هذا التوقع إنما ترجحه المشاركة السياسية ، لأنها تتيح العيش المشترك ، ويبقى العنف خلال سنتين وثلاث ربما، لكنه يكون في خطٍ تنازلي وتخف شدة الأحداث تدريجاً حتى يصل إلى أدنى درجاته ، وبغير المشاركة تبقى طرائق العنف متصاعدة .

  لا .. للشُــبــهة الحمراء

كذلك فإن نظرية المشاركة السياسية تفترض وبشواهد منطقية أنها الوسيلة الأهم لتقليل احتمالات الحرب الأهلية الشيعية السُنية في العراق ، وربما الكردية العربية التركمانية ، لأن للتوترات قابلية العدوى والانتقال ، وجهات التوتير والتأزيم تسعى لذلك ، من يهودية وإيرانية، بل وتسعى لها مدرسة أميركية تطيع اللوبي الصهيوني الأميركي  موجودة داخل جسم الجيش الأميركي العامل في العراق ، وفي البنتاغون والبيت الأبيض ، والحرب الأهلية عنوان مخيف لذي العقل والقلب الحي ، وشرها مستطير يطال الجميع ، وفيها قتل ذريع ودمار البلد والأموال، وتولّد أمراضاً نفسية تنخر في النفوس لجيلين وثلاثة ، ولذلك يحرص العقلاء على تجنبها عبر ممارسة المشاركة السياسية العزيزة التي لا تلين لخطط الضيم ، ولكنها تداري وتماري بالحسنى والوسائل السلمية ، وواهم هو المجاهد الذي يظن أن مواقفه الحربية فقط هي التي تنجد القضية السُنية ، لأن غاية ذلك أن يستقل بمنطقته ، وهذا يوفره تأسيس الفدرالية السُنية بطرق سلمية ولا يحوج لحرب ، وأما أن يتغلب على شيعي وكردي إذ هما أقوياء الآن فذلك محال .

ويجب أن يكون واضحاً لكل مهتم بالقضية السنية : الفرق الكبير بين الاستعداد للحرب الأهلية ، والثبات إذا أراد الخصم أو الكيد الخارجي أن يجرنا إليها ، وبين السعي للتصعيد وإشعال فتيل الحرب الأهلية واعتمادها كحل سياسي للأزمة ، فنحن لا نؤمن أبداً بالدفع نحو الحرب ، ونعتقد أن ما يُنسب إلى الزرقاوي من مهاجمة الحسينيات والقتل العشوائي للجمهور الشيعي المشارك في المناسبات الشيعية إنما هو خطأ محض مثيل لخطأ الميليشيات الحزبية الشيعية التي هاجمت المساجد السُنية قبل وبعد تفجير قبة الهادي في سامراء ، بل لا قيمة لقتل بسطاء الناس مقابل القتل النخبوي الانتقائي لنبلاء أهل السُنة الذي تمارسه الميليشيات ، ولكن إذا هوجمنا وأراد ظالم أن يقحمنا في حرب أهلية رغم أنوفنا : صبرنا ، ودافعنا عن المستضعفين ، ولن نُعطي الدنية في الدين ، والفرق واضح بين الحالتين ، وإنما اقتنعنا بالمشاركة السياسية مستحضرين فائدتها المؤكدة في تجنيب كل الأطراف العراقية مخاطر الحرب الأهلية أو استمرار وتيرة التوتر الاستنزافي الطويل الأمد ، والذي يقود الناس تلزمه تقوى لله تجفله عن استرخاص الدماء وإراقتها ما استطاع ، وقد بدأت تسود في العراق فتاوى دموية تستهين بأرواح المسلمين من كل الأطراف ، وتلك بدعة خوارجية مقيتة تتفلسف بالتكفير والإخراج عن الملة ، وتمنح شباباً أغراراً صفة الإمارة الميدانية الشرعية بالباطل ، ويزعم لهم شباب مثلهم سعة الفتوى بإزهاق الأرواح ، آخذين بظاهر النصوص دون دراية فقهية ، وأصبحت تقوى الله وخوف الإثم وخطأ الاجتهاد آخر ما يُفكر به هؤلاء ، وتلك فتنة ينبغي أن نسعى جميعاً لوأدها والتضييق عليها والإنكار على مثيريها ، شيعياً كان أو سنياً ، فإن لدمـاء أهل القِبـلة حرمـة مؤكـدة ، والعبث بالأرواح فـسوق ، ولولا وجـود شبهة التـأؤل لقـلـنا بكفر الذين يـمـارسون القـتـل ... ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ثم لا .. أخرى .. للشبهة الصــفراء

˜ ونحن نتوقع انفتاحاً في المحيط الكردي يُماثل الانفتاح المرتقب في البيئة الشيعية ، خلال جيل أيضاً ، لأن تربية الأحزاب الكردية العلمانية لأتباعها اعتمدت الغلواء القومية ، حتى خرجت إلى إفراط مبالغ فيه يشمئز من اللغة العربية ويرفع مفرداتها من اللغة الكردية المعاصرة ، ويستبدلها بمفردات فارسية وانكليزية !! ويتنكر لمساهمات الأكراد النبيلة في التاريخ الإسلامي ، وفي مقدمتها بطولة " صلاح الدين الأيوبي " ، ويعتبرها خيانة وصرفاً لجهود كردية في قضية عربية ، ويسبونه ، بل بلغت الردة عن الإسلام لدى الدكتور جمال رشيد أحمد مستشار الرئيس مسعود البارزاني أن اصدر كتاباً في أوائل سنة 2006 عن " تاريخ الكرد والكردستان " وأقحم فيه أخباراً عن النبي r باطلة هي أشد من الطعن الذي صدر في الصحيفة الدانمركية ، فزعم أنه r كان ابن زنا ولدته اُمه بعد أربع سنوات من موت أبيه عبد الله ، وأنه وجد نفسه ( أمام قضية معقدة تتعلق بالانتماء البايولوجي لمحمد ) .. ويتساءل : ( مَن كان والد محمد الحقيقي ؟ ).. ويقول : ( الجواب يحتاج إلى صراحة تاريخية أكثر ) .. وذلك في ص405 من كتابه الرديء .. وهذه رِدّة بإجماع فقهاء المسلمين ، والعياذ بالله ، وهي نوع من الإساءة المتعمدة التي تتكلفها الدوائر الفكرية في الأحزاب الكردية العلمانية من أجل قطع صلة الكرد بالإسلام.

وسوف لن يتوقف هذا الاسترسال المغرض ، الذي بدأ بفصل عن " الماركسية اللينينية " في ميثاق حزب الاتحاد الكردستاني الذي كتبه طالباني ، ولن يكون طعن مستشار البارزاني الأخير في المسلسل ، ولكن الموقف الشعبي الكردي هو الذي يكمن فيه الأمل باستدراك قوي يكون فيه الوفاء للإسلام ولتاريخ الكرد المشرف المشحون بالمواقف البطولية والخيرية النقية المنحازة للإيمان وأهله ، ونحن نلحظ في الأُفق الكردي بوادر صحوة إسلامية رشيدة ووعي سياسي يبرأ من الارتباط بأميركا وأوربا وإيران ، وهو الذي سيكون حليفنا الواعد وظهيرنا الموثوق ، وأي حلف سياسي حالي تجمعنا فيه الضرورات المرحلية والإستراتيجية سيبقى ناقصاً وتعكّر عليه الشبهات الفكرية والعقيدية ، ولن يكون سوى مرحلة نحو ذاك الحلف الإسلامي الذي نرنو إليه مع الشعب الكردي .......  تحت ظلال القرآن            

 

 


 [w1]

تعليقات الفيسبوك

كن معنا في نشر الوعي

"وتتعمّد منهجيتنا التربوية تربية صفوة كبيرة الحجم من الدعاة تتكون منها قاعدة صلبة للعمل الدعوي وتحمل أثقاله، وتصبر على طول الطريق، وتتكون منها الطبقة القيادية، ثم نحاول صناعة طبقة واسعة من الموالين للدعوة". 11

كن معنا